تاريخ الحياة الرهبانيه
يؤكّد لنا التاريخ البشري أن الحياة الرهبانية لمتكن يوماً حكراً على شعب دون آخر ولا على ديانة دون سواها. فمن قبل المسيح، كانت هناكجماعات رهبانية ــ ولو لم تُعرف
بهذا الإسم حرفياًَ ــ إلّا أن نظام حياتهاوالأشكال التي اتخذتها، تجعلها منخرطة تحت اسم هذه الظاهرة العالمية، التي نجد أثرهاعند مختلف الديانات،منها على سبيل المثال :
في الفلسفة اليونانية
وتحديداًفي القرن السادس ق.م مع بيتاغوراس، شهدت اليونان تأسيس جماعة ذات أهداف دينيةوسياسية تسعى إلى الربط بين البشر والألوهة للوصول إلى خلق إنسان أفضل،ينجم عنهمجتمع أفضل. ولبلوغ هذه الغاية، اعتمدت هذه الجماعة بالأكثر علىالتقشّف، الإنعزال، والصمت، وارتداء الثياب البيضاء علامة السعي إلى الكمال.
فيالديانة الهندوسية:
وفيها تبرز الحياة الرهبانية ضمن أشكال مختلفة يمكن تحديدهابثلاثة:
النساك المتوحّدون، القاطنون في الغابات للتأمّل والتقشّف
المستعطون، الذين يجوبون الشوارع بحثاً عن ذواتهم وعن حقيقة الوجود المجرّد
والجماعة الملتفّة حول معلّم، يلقّنها الكتب الروحيّة واليوغا.
في الديانةالبوذيّة
وفيها التعليم الأساسي لبوذا، الذي يهدف الى الخلاص والتحرّر من الألمالكامن في عمق الطبيعة الإنسانية من خلال السعي إلى المطلق، والى التحرّر من الكونوالذات بصورة جذريّة، وهذا التحرّرــ برأي بوذا ـ وحده الراهب البوذي يستطيع الوصولاليه من خلال ممارسة التقشّفات الصارمة.
في الديانة اليهوديّة
عرفتالديانة اليهوديّة بدورها، نوعاً من أنواع الحياة الرهبانية (إن استطعنا القول) ففيزمن ساد فيه الفساد والبعد عن الدين واهمال الشريعة،قامت جماعة من الشعب اليهوديوقرّرت الإعتزال عن العالم لعيش الشريعة بشكل أفضل وللإقتراب من الله أكثر. هذهالجماعة سماها الأقدمون بجماعة الأسيانيين او الأسينيين الذين لم نعرف شيئاً عنهمالّا عن طريق الصدفة سنة 1947 بواسطة بدو من قبيلة التعامرة في قمران قرب البحر الميت وسبب ادراجنا لها تحتلواء الحياة الرهبانية يعود إلى نظامها وقوانينها المتضمّنة للحياة الجماعيةوالرئاسة والفقر والعفة والطاعة ونظام المائدة والى ما هنالك من أنظمة مختصّةبالحياة الرهبانية>
في الديانة الإسلامية
والتي لا يخلوموقفها من الغموض، فهناك آية قرآنية تقول "وقفّينا بعيسى ابن مريم وآتيناهالإنجيل، وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها،وكتبناها عليهمإلّا إبتغاء لرضوان الله، فما رعوها حقّ رعايتها فأتينا الذين آمنوا منهم أجرهموكثير منهم فاسقون(سورة الحديد 57 آية 27
ويتضح من هذه الآية، تقدير الإسلامللحياة الرهبانية بذاتها والإعتراف بأصلها الإلهي ولكنّها تنتقد بعض الرهبان الذينلم يوفوها حقّها
هذا من جهة، ومن جهّة أخرى هناك حديث نبوي يجزم أن "لا رهبانيةفي الإسلام" وآخر:"إن من سنّتنا النكاح" أي لا بتولية في الاسلام.ولكن على الرغم من ذلك، فقد شهد الإسلاممنذ نشأته أشخاصاً مالوا للعزلة والتقشّف والإبتعاد عن مغريات العالم، عُرفوابالمتصوّفين ومن أشهرهم"رابعة العدويّة" وقد انتظم بعضهم في جماعات لها قوانينهاالخاصة بالإضافة إلى ممارسات الإسلام العاديّة
"
وجدير بالذكر أن منهم من تطرّفوشطّ عن الإسلام، فنال نقمة المسلمين ورفضهم له".
ومن الأديان الوثنيّة، إلى تلك السماوية غير المسيحيّةKننتقل الآن لمعرفة كيفيّة وتاريخ تأسيس الحياة الرهبانية
في الديانة المسيحية
كثيرون من المفسرين والشرّاح، يعودون بالحياة الرهبانية إلى زمن المسيح نفسه.
وإن لم يكن المسيح قد أسّس جماعة رهبانية بحصر معناها الخاص كما نعرفها اليومإلّا أنه أنشأ ما هو قاعدة أساسية لها، أي تكريس الحياة لخدمة الله بواسطة عيشالمشورات الإنجيليّة ،وهذا ما قد أشار اليه المجمع الفاتيكاني (نور الأمم 43) بقوله :"إن المشورات الإنجيليّة في العفّة المنذورة لله، والفقر والطاعة،الراسية على أقوالالرب وقدواته...إنما هي موهبة إلهية،تسلّمتها الكنيسة من الرب وتحافظ عليهابأمانة،بقوّة نعمته...وبعد المسيح،كانت الجماعة الأولى كما يصفها سفر أعمال الرسلالمثال الأول لجماعات الرهبان الذين يواظبون كلّ يوم بنفس واحدة على تعليمالرسل،وكسر الخبز،والشركة والصلوات(أع 2/42،46)والذين عندهم"كلّ شيء مشترك"(أع 2/44) (4/32) أما بعد الرسل والتلاميذ الأوّلين وفي القرنين الأوّل والثاني ب.مظهرت جماعات من الناس قد رغبوا بعيش الكمال واتباع المسيح عن كثب، من خلال تبتّلهموتكرّسهم للخدمة وممارسة الأعمال الصالحة، من دون أن يتركوا بيوتهم وأهلهموأصدقاءهم...ولكن في القرن الثالث الميلادي وبسبب اشتداد الإضطهادات التي تعرّضلها المسيحيون في مصر على عهد الإمبراطور داسيوس، الذي راح يطاردهم ويقتلهم، هربالكثير من المسيحيين إلى الصحارى عاكفين على الصلاة والصوم
ولمّا انتهت الزوبعةعاد الكثيرون إلى بيوتهم بينما بقى بعضهم في البراري والصحارى يمارسون الصلاةوالتقشّف والسهر والأعمال اليدويّة...رغبة منهم في العودة إلى جذور الديانةالمسيحيّة وفي عيش جذور الإنجيل بعدما كان الفساد والبعد عن الدين قد حلّ بالكثيرمن المسيحيين في ذلك الوقت
وهكذا بدأت الحياة الرهبانيّة في مصر ،ومع أن القديسبولس التيبي (240ــ340)كان أوّل من اعتزل العالم وكرّس نفسه للصلاة والصوم إلّا أنالقديس أنطونيوس الكبير(250ــ350)هو الذي اعتبر مؤسس الحياة الرهبانية النسكيّة. ومن بين تلاميذه خرج القديس باخوميوس(292ــ346(وهو أوّل من بدّأ يجمع الرهبان فيالأديرة تحت رئاسة واحد منهم دعاه الأرشمندريت،وجعل لهم قانوناُ موحّداً،ورتّبللجميع حياة متاشبهة أما وبعد باخوميوس فقد جاء القديس باسيليوسالكبير(329ـ379(الذي فضّل الحياة الرهبانية الجماعية والمشتركة على الحياة الفرديّةوالنسكيّة، فقد كان يرى في الأولى سبباً أكبر للثبات.وقد وضع لرهبانه قوانينهالمشهورة التي ما زال الرهبان في الكنيسة البيزنطيّة جمعاء يسيرون عليها حتّى يومناهذا
والجدير بالذكر أن القديس باسيليوس كان أول من أدخل الى الحياة الرهبانيةنشاطاً رسولياُ كالإعتناء بالمرضى والفقراء والوعظ...وقد جعل يجمع المؤمنين فيالكنيسة كلّ صباح ومساء للوعظ والإرشاد وأسّس ملجأً للمرضى والفقراء دُعي باسمه
أما بالنسبة الى الغرب فقد انتقلت الحياة الرهبانية اليه بتأثير من سيرة القديسأنطونيوس التي كتبها القديس أثناسيوس الكبير(
توفّي عام 373)وعن طريق القديسيوحنا كاسيّان(توفي عام 435)الذي عاش فترة مع الرهبان في مصر وفلسطين ثمّ عاد الىالغرب وأسس ديره الأوّل في مدينة مرسيليا في فرنسا،وأكثر من اشتهر بين مؤسّسيالحياة الرهبانية في الغرب كان القديس بندكتس(توفي سنة 547)الذي استند كثيراُ الىالطريقة الباسيلية في تأسيس رهبانيّته(الرهبانية البندكتية)التي استمرّت حتى اليوم.
هذا الى جانب قيام العديد من الرهبانيات الغربية في القرون الوسطى والتي اختلفتأنظمتها وتنوّعت روحانياتها.
وفي القرن الخامس ظهرت الحاجة الى ضبط الحياةالرهبانية من حيث علاقتها بالرئاسة الروحية وتلافي روح الفردية والفوضى فكانت هذهمهمّة المجمع المسكوني الرابع المنعقد في خلقيدونية سنة 451 والذي أتبع الرهبانلمطران الأبرشية وشيئاً فشيئاُ تمّ تنظيم هذه الحياة خاصة ما بين القرنين السادسوالتاسع مع الإمبراطور يوستنيانوس والمجامع المنعقدة في تلك الفترة وقد تناولت هذهالإصلاحات إخضاع تأسيس الأديرة لإذن المطران وترجيح الطريقة الباسيلية علىالتوحّد،وأصول الإبتداء ولبسالثوب وشروط التوحّد ووضع الأملاك ...إلخ
وهكذابدأت الحياة الرهبانية في الشرق نسكاً وتوحّداً لتنطلق إلى الغرب وتنتشر فيه وتعودإلى مسقط رأسها بحلّتها الجديدة المتطبّعة بالرسالة وخدمة الناس فاندمجت واختلطتوها هي الحياة الرهبانية تجمع بأغلبها ما بين الحياة الروحيّة(صلاة وتوحّد) والحياةالرسوليّة(وعظ وإرشد وخدمة الناس بمختلف الأصعدة