سلام القلب
ما أعمق الذي يعيش في سلام داخلي، يملك عليه الهدوء، وكل ضيقات العالم لا تزعجه. إنّه يستمد سلامه من الداخل، وليس من الظروف الخارجية، لذلك فإنّ الظروف الخارجية لا تزعجه. حقاً، أنه ليس من صالح الإنسان أن يجعل سلامه يتوقف على سبب خارجي. إن اضطربت الأحوال يضطرب معها وإن هدأت يهدأ. سبب خارجي يجعله يثور، وسبب يجعله يفرح، سبب يبكيه، وسبب يحزنه... مثل هذا يكون كما قال الشاعر:
كريشة في مهب الريح طائرة لا تستقر على حال من القلق
الرجل القوي يجعل الظروف الخارجية تخضع لمشاعره، وقوة قلبه، وحسن تحكمه في انفعالاته، ولا يخضع هو لها. إن حدث حادث معيّن، يتناوله في هدوء ويفحصه بفكر مستقر، ويبحث عن حل له. كل ذلك وهو متمالك لأعصابه، متحكم في انفعالاته. وبهذا ينتصر، ويكون أقوى من الأحداث، ويحتفظ بسلامه الداخلي ذلك لأنّ قلبه كان أكبر من الظروف والأحداث. وما أصدق ذلك الكاتب الروحي الذي قال: إن قطعة من الطين يمكنها أن تعكر كوباً من الماء، ولكنها لا تستطيع أن تعكر المحيط. يأخذها المحيط ويفرشها في أعماقه،ويقدم لك ماء رائقاً.
لذلك أيها القارئ العزيز، كن واسع القلب، كن رحب الصدر، كن عميقاً في داخلك. قل لنفسك في ثقة: أنا لا يمكن أن أضعف ولا يمكن أن تنهار معنوياتي أمام الأخبار المثيرة، أو أمام الضغطات الخارجية. مهماخدث، مهما حدث، فسأحاول أني لا أنفعل، وإن انفعلت، سأحالو أن أسيطر على انفعالاتي. سأبتسم للضيقات وسأكون بشوشاً أمام الضغطات. وسأثبت - بقوة من الله - حتى تمر العاصفة.
لا تفكر في الضيقة التي أصابتك وفي أضرارها وفي أتعابها، بل فكر في حل لها. إنّ كثرة التفكير في الضيقة هي التي تحطم الأعصاب وتتعب النفس. أحياناً يكون التفكير في الضيقة أشد ألماً للنفس من الضيقة ذاتها. إنّ التفكير في الضيقة هو الذي يجلب الأحزان، والأمراض والهم والنكد. وهو لون الانهيار ومن الخضوع تحت ثقل الضيقة. أما التفكير في إيجاد حل للضيقة، فهو الذي يعمل على سلام النفس وراحتها. ضع في نفسك أنّ كل ضيقة لها حل، وكل ضيقة لها مدى زمني معيّن تنتهي فيه.
فكر في هذا الحل، وإن وصلت إليه ستستريح. وإن لم تصل ثق بروح الإيمان أنّ الله عنده حلول كثيرة، وأنه - تبارك اسمه - قادر أن يعينك وأن يحل جميع إشكالاتك. وتذكر ضيقات سابقة قد حلها الله ومرت بسلام.
واحذر من أن يوقعك الشيطان في اليأس، أو أن يصوّر لك الأمر معقداً لا حل له. فإنّ الإنسان المؤمن لا ييأس. المؤمن يعرف أنّ الله موجود، وأنه إله رحيم، ورحمته غير محدودة، وهو ضابط للكل. والعالم كله في قبضة يديه وأن الله يدبر كل شيء حسناً، ولا بد أنه سيتدخل ويعمل عملاً. لذلك فإنّ المؤمن يستريح في أعماقه، ويلقي على الرب همه، ويستودعه كل مشكلاته. أما الذي يستسلم لليأس فإنّه يضيّع نفسه. قد يتصرف في يأسه أي تصرف خاطئ يكون أكثر ضرراً من المشكلة القائمة نفسها. مثال ذلك ييأس من مشاكل الحياة فينتحر... أو مثل تلك الفتاة التي تخطئ، وتيأس من إيجاد حل لمشكلتها، فتستسلم للخطيئة وتضيع...
إنّ القلب القوي لا يستسلم للضيقات، والقلب الأقوى لا يشعر بالضيقة، لأنها لا تضايقه. وأتذكر أنني قلت في إحدى المرات: إن الضيقة قد سُميت ضيقة، لأن القلب قد ضاق عن أن يتسع لها. أما لو كان القلب متسعاً، لما شعر أنها ضيقة، لو كان متسعاً ما تضايق منها. الضيق إذن في قلوبنا وليس في العوامل الخارجية. إن تعكرنا نحن، تبدو أمامنا كل الأمور متعكرة، وإن تعبنا في الداخل تبدو أمامنا كل الأمور متعبة. أليس حقاً أنّ أمراً من الأمور قد يضايق إنساناً ما. وفي نفس الوقت لا يتضايق منه إنسان آخر، وهو نفس الأمر.
ليس المهم إذن في نوع الأحداث، التي تحدث لنا، بل المهم بالأكثر هو الطريق التي نقابل بها الأحداث ونتصرف معها.
الإنسان القوي الذي يصمد أمام الإشكالات، يزداد قوة. والإنسان الضعيف الذي ينهار أمامها يزداد ضعفاً. فالإشكالات هي نفس الإشكالات ولكنها تقوي شخصاً وتزيده صلابة ومراساً وحنكة، وتضعف شخصاً آخر وتزيده انهياراً وخوراً وحزناً. لذلك كونوا أقوياء في الداخل، وخذوا من الضيقات ما فيها من بركة وليس ما فيها من ألم.
لقد سمح الله بالضيقات من أجل فائدتنا ونفعنا، وفي ذلك قال الرسول يعقوب: «اِحْسِبُوهُ كُلَّ فَرَحٍ يَا إِخْوَتِي حِينَمَا تَقَعُونَ فِي تَجَارِبَ مُتَنَوِّعَةٍ» (يعقوب 1: 2). إنّ المؤمن يشعر أنّ الله قد سمح له بالضيقة من أجل المنفعة، لذلك يفرح بالضيقة. وبهذا يقدم لنا الكتاب المقدس درجة روحية كبيرة من احتمال الضيقات، وهي الفرح بالضيقات.
إن المسألة تحتاج إلى إيمان، لأنك ربما ترى الضيقة فقط، ولا ترى الخير الإلهي الكامن فيه. إنّ هذا الخير لا تراه بالعين المادية، ولكنك تراه بالإيمان، بثقتك في عمل الله المحب وحسن رعايته. مثال ذلك يوسف الصديق أحاطت به التجارب والضيقات حتى اتُهم اتهامات باطلة وألقي في الجسن ولكن السجن كان طريقه إلى الملك والقوة. إنّ أهل العالم قد تزعجهم التجارب والضيقات، أما الإنسان المؤمن فهو ليس كذلك. إنّ المتاعب قد تحيط به من الخارج ولكنها لاتدخل مطلقاً إلى نفسه. إنه كالسفينة الكبيرة التي تمخر عباب المحيط، تضطرب الأمواج حولها وهي سائرة في رصانة نحو هدفها، طالما المياه ما تزال خارجها. مسكينة تلك السفينة إن وُجد ثقب في نفسيتها، واستطاعت المياه أن تنفذ إلى داخلها.
احذروا أيها الأحباء من أن تدخل المياه إلى أنفسكم. واعلموا في كل ضيقة أنّ التجاب التي يسمح بها الله، لها شروط، منها: أنها على قدر احتمالكم، وأيضاً كل تجربة معها المنفذ، وأيضاً كل تجربة لا بد أن تؤول إلى نفعكم إن أحسنتم استخدامها.
إنّ الله في محبته للبشر لا يسمح بأن تحل تجربة بإنسان، يكون احتمالها أكثر من طاقته. كل التجارب التي يسمح بها الله هي في حدود احتمالنا. أما التجارب القوية فإنّ الله لا يسمح بها إلا للناس الأقوياء الذين يحتملون.
والتجارب هي مدرسة للصلاة، تدرب الإنسان كيف يحني ركبتيه أمام الله، وكيف يرفع قلبه قبل أن يرفع يديه طالباً العون من الله الذي هو معين من لا معين له، ورجاء من لا رجاء له، عزاء صغيري القلوب، ميناء الذين في العاصفة.