روي لنا بستان الرهبان عن لقاء القديس تادرس الأسقف مع حبيس شيخ سأله أن يعَرفه بسيرته من أجل الرب . فتنفس الحبيس الصعداء، وتنهد من صميم قلبه، وذرفت دموعه، وقال : "أما سيرتي فإني أخبرك بها إنما لا تشهرها إلا بعد انتقالي" .
عندئذ بدأ الحبيس يروي للأسقف انه ذهب إلى دير وكان معه أخوه الأكبر منه، وقد بقيا بالدير ثلاث سنوات ثم جاء إلى البرية في بابل القديمة، وسكنا مقابر بالقرب من بعضها البعض . وكانا يقضيان حياتهما في العبادة بقلب نقي، وإن جاعا يخرجان يجمعان بعض الحشائش يأكلانها، ولم يكن أحدهما يكلم الآخر، بل كانا مشغولين في العبادة والتأمل، وكان يظهر مع كل أحد ملاك يحفظه .
في أحد الأيام شهد هذا الحبيس أخاه يقفز من موضع كمن نجا من فخٍ فاندهش وصمم أن يذهب ليرى ما هو سرّ قفزه . ذهب فوجد ذهبًا كثيرًا، أخذه وذهب به إلى المدينة، هناك بنى بيتًا للغرباء، وأقام رجلاً يديره بعد أن أعطاه مبلغًا من المال، وقدم كل ما تبقى للفقراء، وعاد إلى موضعه لا يملك دينارًا واحدًا، وكان يفكر في نفسه أنه نجح في تدبير المال الأمر الذي فشل فيه أخوه . ذهب إلى موضعه القديم ليجد الملاك الذي كان يراه قبلاً يتطلع إليه في حزن شديد ويقول له : "لماذا تتعجرف باطلاً، إن جميع تعبك الذي انشغلت به كل هذه الأيام لا يساوي تلك القفزة التي وثبها أخوك، لأنه ما جاز عن حفرة الذهب فحسب وإنما عبر أيضًا تلك الهوة الفاصلة بين الغني ولعاذر، واستحق بذلك السكنى في حضن إبراهيم، من أجل ذلك أصبح حالك لا يساوى شيئًا بالنسبة لحاله بما لا يُقاس، وها هو قد فاتك الكثير جدًا . لهذا قد صرت غير أهل لأن ترى وجهه كما لا تحظى برؤياي معك بعد" . إذ قال له الملاك ذلك غاب عن عينيه . ذهب إلى مغارة أخيه فلم يجد أخاه عندئذ رفع صوته باكيًا حتى لم يعد له قوة على البكاء .
لم يقلل الملاك من شأن الصدقة والعطاء، ولكن ما تؤكده هذه القصة أمرين : الأول أن العطاء مع قلب متعجرف يدين الآخرين يُحسب كلا شئ . والأمر الثاني أن الله يطلب نقاوة القلب الداخلية قبل الأعمال الظاهرة، فقد سبق الأخ الأكبر أخاه بقفزة قلبه عن كل أمور العالم .
أخيرًا قام الحبيس سبعة أيام يطوف في البرية يبحث عن أخيه، وقد ترك البرية وجاء إلى مغارة يمارس العبادة بدموع 49 عامًا مشتاقًا أن يرى الملاك الذي لم يعد يراه، وفي السنة الخمسين ظهر له وامتلأت نفسه تعزيات سماوية .