المحاضرة الأولى: أساسيات الأيمان المسيحي 01
للأسف الشديد، فإن على مر أربعة عشر قرناً من الزمان قد تأثرنا كثيراً بالثقافة العربية الإسلامية، فنتيجة لإختلاط الشعوب المسيحيّة ( في مصر وسوريا والعراق وفلسطين ..إلخ ) فالعرب، تخالطت اللغات ومع مرور الوقت إستعمل المسيحيون اللغة العربية بدلا من لغاتهم التي كانت قبل " الفتوحات " الإسلامية، وفي نفس هذا الخط الزمني كانت الفجوة الزمنية بين صعود رب المجد يسوع المسيح وبين العصر الحالي تزداد إتساعاً فكانت اللغات التي إستقرت لزمن يصل إلى ستّة قرون بدأت في الإندثار نتيجة عدم إستعمالها ودخول اللغة العربية للحياة اليومية، ومع مرور أجيال صارت اللغات التي أُستُعمِلت من قِبل الآباء هى اللغة الثانية ولم تَعُد تُستَخدم إلا في الصلوات الليتورجية والتي كانت قد إستقرت بالفعل في وجدان الكنيسة ، والتي مازال منها الكثير إلى يومنا هذا يتم تفعيله في الصلوات الليتورجية، ومع مرور الزمن، ودخول اللغة العربية الركيكة بشكل كبير في كل شيء فقد إضطر الآباء في هذه الفترة لإستخدام مصطلحات وتعابير يحاولون بها إيصال المعنى الذي يتم شرحه لعامة الشعب وغيرهم، فحاولوا بقدر الإمكان إتخاذ مصطلحات يضعونها كتعبير عن المصطلحات الأصلية ( مثل كلمة " اقنوم " ، تعبر عن " هيبوستاسيس " ) ومع مرور الوقت وضعف التعليم الآبائي نظراً للظروف المختلفة التي تمر بها كل دولة وكل شعب داخل كل دولة فأصبحت هذه الكلمات العربية ( مثل أقنوم ) هى المستخدمة بشكل شِبة مطلق وبدون شرح دقيق للأصول التي تعبر عنها هذه الكلمات، فإختلط المعنى على كثير من الناس، هكذا كل المصطلحات تقريباً، والحاصل الآن أن نسبة كبيرة من المسيحيية لا يعرفون المعاني الصحيحة التي تقف خلف كل مصطلح بل يكاد لايعرفون المصطلح الأصلي نفسه، هذه واحدة، الأخرى ، أن التعليم الصحيح الآبائي نفسه لم يعد مُفعّل بكثافة ، بل صار في أغلب الأحيان يُدرس في الإكلريكيات والكليات والمعاهد اللاهوتية فقط ومع تزايد أعداد الشعب المسيحي وقلة عدد الكهنة صار الكاهن منهمك ما بين خدماته طوال النهار وبين الصلوات والعظات ..إلخ، فقلت كثافة التعليم وقل المتعلمين، ومن هنا لكي نستطيع أن نرد على كل مخالف، لابد ان نعرف اولا، ما هى النقاط المخالفة، ولكي نعرف النقاط المخالفة لابد ان نعرف طرفي الخلاف، ولكي نعرف طرفي الخلاف لابد أن نعرف ما نؤمن به أولاً ثم الطرف الآخر سنعرفه فيما بعد، ومن هنا فهذا الجزء في هذه الدورة مختص بتصفية المعارف المسيحيية في عقولنا مما علق بها من شوائب عربية وسنتكلم عن بعض هذه المعارف في إيجاز شديد.
بمن نؤمن؟، إن حقيقة الإيمان المسيحي كله يرتكز على المسيح نفسه شخصياً، فيبدأ من العهد القديم وبداية من سفر التكوين ، وسقوط الجنس البشري ، قد وعد الرب الجنس البشري بأن نسل المرأة سيسحق رأس الحيّة ، وإستمر الزمان وتوالت النبوات عن هذا " النسل " الذي سيسحق رأس الحية ، وتوالى الأنبياء واحداً تلو الآخر يتنبأون عن هذا المنتظر ( المسيح ) إلى أن جاء رب المجد يسوع المسيح إلى عالمنا بحسب الجسد ، ثم صُلِب وقُتِل بمشورة اليهود وتنفيذ الرومان ، ثم خرج الرسل والتلاميذ وملأوا العالم بشارة بيسوع المسيح وإياه مصلوباً ونمت الكرازة في وقت قليل جداً وإنتشرت بشدة في العالم أجمع وتم تأسيس كنائس ورسامة أساقفة وقسس وشممامسة حتى كتب البشير يوحنا سفر الرؤيا والذي فيه قد كتب بطريقة رائعة كيف أعاد الرب الإنسان إلى مجده الأول والقاريء المدقق للكتاب المقدس سيلاحظ أنه بدأ بسقوط الجسن البشري ثم إنتهى بعودة الجنس البشري الصالح إلى الملكوت مرة أخرى ( رجاء بجدية قراءة الأصحاحات الثلاثة الأولى من سفر الكوين وبعدها مباشرة قراءة الأصحاحات الثلاثة الأخيرة من سفر الرؤيا ) ، وبين هذا وذاك يوجد من قسم التاريخ، يوجد من تنبأ عنه الأنبياء ، وأخبر بمجيئه وتحقيق النبوات عنه التلاميذ والرسل الأطهار، وبين من كَتب عن مجيئه الأنبياء وبين من كَتب عن رسالته الرسل، هذا الشخص هو شخص الرب يسوع المسيح له كل المجد، فالكتاب المقدس ليس هو الغاية في حد ذاته، ليست حروفه هى الغاية ، الحروف هذه هى وسيلة لشرح وإيصال رسالة البشارة والخلاص لكل العالم ، لكن ليست هى نفسها حجر الزاوية ، هى تبشر بحجر الزاوية ولكنها ليست هى حجر الزاوية، فكل أرتباطنا هو بالمسيح لأن ليس بأحدٍ غيره الخلاص، فالتلاميذ هم تلاميذ الرب يسوع المسيح ، والرُسل هم رسل الرب يسوع المسيح، وبولس الرسول هو رسول يسوع المسيح ، وفي الليتورجيا نتعامل بالطقسِ مع الرب يسوع المسيح ، ومريم العذراء هى أم يسوع المسيح ونحن أبناء يسوع المسيح والكتاب المقدس هو رسالة خلاص يسوع المسيح ..إلخ، فنجد أن حجر الزاوية هو الرب يسوع المسيح نفسه.
كيف نؤمن؟، يقول القديس بولس الرسول أن " الإيمان بالخبر، والخبر بكلمة الله "، فما هى " كلمة الله " المقصودة هنا؟ يستطيع أي شخص منكم أن يقول بكل سهولة، كلمة الله أي الكتاب المقدس أوَيوجد غيرها كلمة الله؟، هذا الفهم صحيحاً ولكنه منقوصاً، لماذا ؟، دعونا نقرأ ما قاله بالترتيب، " فَكَيْفَ يَدْعُونَ بِمَنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ؟ وَكَيْفَ يُؤْمِنُونَ بِمَنْ لَمْ يَسْمَعُوا بِهِ؟ وَكَيْفَ يَسْمَعُونَ بِلاَ كَارِزٍ؟ وَكَيْفَ يَكْرِزُونَ إِنْ لَمْ يُرْسَلُوا؟ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: «مَا أَجْمَلَ أَقْدَامَ الْمُبَشِّرِينَ بِالسَّلاَمِ، الْمُبَشِّرِينَ بِالْخَيْرَاتِ». لكِنْ لَيْسَ الْجَمِيعُ قَدْ أَطَاعُوا الإِنْجِيلَ، لأَنَّ إِشَعْيَاءَ يَقُولُ: «يَا رَبُّ مَنْ صَدَّقَ خَبَرَنَا؟» إِذًا الإِيمَانُ بِالْخَبَرِ، وَالْخَبَرُ بِكَلِمَةِ اللهِ " فهل مازال جوابك هو نفسه الجواب الأول؟ دعونا نوضح شيئاً، من المعروف أن الكنيسة منذ صعود المسيح قد ظلت فترة بلا أي أسفار للعهد الجديد،إلى أن بدأ الرسل يكتبون الرسائل والبشائر، فكيف كانت الكنيسة في هذه الفترة؟ في الحقيقة كانت الكنيسة تعيش في هذه الفترة على التعليم المباشر بالكرازة من فم الرسل أنفسهم ، حيث كان أكثرهم على قيد الحياة وكانوا يتنقلون هم بأنفسهم شرقاً وغرباً، شمالا وجنوباً ، كارزين ببشارة الملكوت وخلاص يسوع المسيح، ثم بعد ذلك كتبوا رسائل إلى هذه المدن التي كانوا قد زاروها وأسسوا فيها كنائس ورسموا فيها أساقفة وقسس، فهل الذين إنتقلوا من هذا العالم في هذه الفترة – أي قبل كتابة أي بشارة أو رسالة – كانوا يؤمنون؟ وبمن وبماذا كانوا يؤمنون وهم ليس معهم " عهد جديد " ؟ هل من مات منهم على بشارة خلاص يسوع المسيح قد دخل الفردوس؟ بالطبع نعم، لماذا؟ لأن البشارة كانت تنتقل بإتقال المبشر أو الرسول أو أحد تلاميذه، فكانت الكرازة الشفهية هى العمدة في الإيمان، الآن يمككنا أن نعيد قراءة ما كتبه القديس بولس الرسول بدقة، " " فَكَيْفَ يَدْعُونَ بِمَنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ؟ وَكَيْفَ يُؤْمِنُونَ بِمَنْ لَمْ يَسْمَعُوا بِهِ؟ وَكَيْفَ يَسْمَعُونَ بِلاَ كَارِزٍ؟ وَكَيْفَ يَكْرِزُونَ إِنْ لَمْ يُرْسَلُوا؟ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: «مَا أَجْمَلَ أَقْدَامَ الْمُبَشِّرِينَ بِالسَّلاَمِ، الْمُبَشِّرِينَ بِالْخَيْرَاتِ». لكِنْ لَيْسَ الْجَمِيعُ قَدْ أَطَاعُوا الإِنْجِيلَ، لأَنَّ إِشَعْيَاءَ يَقُولُ: «يَا رَبُّ مَنْ صَدَّقَ خَبَرَنَا؟» إِذًا الإِيمَانُ بِالْخَبَرِ، وَالْخَبَرُ بِكَلِمَةِ اللهِ "، فهل عرفتم ما هى كلمة الله المقصودة هنا أم لا ؟ كلمة الله المقصودة هنا هى البشارة نفسها، البشارة التي جال الرسل والتلاميذ يحملونها للخليقة كلها والتي كان الفرد المؤمن يكون قد آمن بها حتى بدون إنجيل مكتوب، فكما قلنا أن الرب يسوع المسيح نفسه هو حجر الزاوية، والكتاب المقدس هو وسيلة مكتوبة لإيصال بشارة يسوع المسيح للعالم، لذلك نجد الرسول بولس يقول " كَيْفَ يُؤْمِنُونَ بِمَنْ لَمْ يَسْمَعُوا بِهِ؟ وَكَيْفَ يَسْمَعُونَ بِلاَ كَارِزٍ؟ " فالإيمان كان بالكرازة والكرازة كانت بالإرساليات والذين أطاعوا البشارة قد آمنوا بالخبر وهذا الخبر - أي البشارة – هو كلمة الله، فـ"كلمة الله" المقصود بها البشارة بيسوع المسيح نفسه سواء كان شفهياً ( أي ما تكلم به التلاميذ والرسل شفهياً ) أو بالكتاب المقدس ( أي ما كتبه التلاميذ والرسل )، ونلاحظ هنا أن بولس الرسول نفسه لم يكتب إنجيلاً بالمعنى المتعارف عليه الآن، لكن بالرغم من هذا فهو بشارة ورسائله تبشر بيسوع المسيح، وهو ما قلنا عنه في المحاضرة السابقة حين تكلمنا عن المسلم الذي يقول " أنا اريد كلام المسيح وليس كلام بولس " فكلام المسيح نُقِلَ إلينا عن طريق الرسل والتلاميذ ( البشارة ) سواء كان في الأناجيل أو في الرسائل او في الأسفار الأخرى، وهذا يتضح من كلام الرب يسوع المسيح عندما قال " وينبغي أن يكرز أولا بالإنجيل في جميع الأمم " وأيضاً " اذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها " ومن المعروف بداهةً أنه لم يكن هناك إنجيلاً في حياة الرب يسوع المسيح بحسب الجسد، ومن المعروف أيضا أن كلمة " الإنجيل " تعني " البشارة السارة " وهذه البشارة السارة هى الخلاص بدم يسوع المسيح، فالأصل في الإيمان هو " التبشير والقبول " لذلك فإن " كلمة الله " أي البشارة بيسوع رباً ومسيحاً وبخلاصه للبشرية كلها بدمه المقدس.
من يسبق من؟، هل الكرازة الكتابية ( أي التي يستخدم بها الكتابة ) تسبق الكرازة الشفهية؟ أم العكس هو الصحيح؟، بالطبع وبدون ادنى شك، من يعرف كيف كانت حياة الرسل يعرف تماماً أن البشارة كانت في الـ ـ30 عاماً تقريباً الأولى كانت البشارة فيهم عن طريق اللسان والسفر الفعلي لكل تلميذ أو رسول إلى المكان الذي ينتوي البشارة فيه، ومن هنا يأتي ما نعرفه اليوم بإسم " التقليد "، فما هو التقليد؟ التقليد هو كل ما وصلنا من الرسل عن طريق كتاباتهم أو تعليمهم، أي أنه ينقسم إلى قِسم منقول شفاهةً وقِسم منقول كتابةً، وكل منهما له سلطته الرسولية في كنيسة الرب، ولكن مع مرور الزمن صار التقليد المكتوب ( الكتاب المقدس ) يُنظر إليه بصورة مُغايرة عن النظرة التي يُنظر بها إلى التقليد الشفاهي، وهذا له عوامل كثيرة لا نناقشها الآن، فما فائدة هذه النقطة إذن؟ ، التقليد المكتوب ينقل لنا "بعض" تعاليم المسيح وبعض أفعاله وأقواله، وبالطبع لا ينقلها كلها، فهذا يوحنا تلميذ الرب يسوع المسيح يقول " وآيات أخر كثيرة صنع يسوع قدام تلاميذه لم تكتب في هذا الكتاب وأما هذه فقد كتبت لتؤمنوا أن يسوع هو المسيح ابن الله ولكي تكون لكم إذا آمنتم حياة باسمه " ويقول أيضاً " وأشياء أخر كثيرة صنعها يسوع إن كتبت واحدة واحدة فلست أظن أن العالم نفسه يسع الكتب المكتوبة "، فهذا ما كتبه يوحنا الرسول عن المسيح له كل المجد، وهناك آخر كتب أشياء أخرى ، وجميعهم لم يكتبوا كل شيء قاله أو فعله الرب يسوع المسيح ولكن عن طريق حياتهم وتلمذتهم لتلاميذ والكرازة ورسامة الأساقفة والقسس والشمامسة، صاروا يعلموهم ما ما فعله وما قاله رب المجد يسوع المسيح، بل أن هذا كان هو السابق، فكتابة البشائر الأربعة والرسائل قد جاءت بعد الكرازة الشفهية، ومن هنا يأتي أهمية التقليد الشفاهي حيث أن الرسل مع انهم يملكون السلطة الرسولية فقد بشروا بالإيمان شفاهةً وسَفَراً وتَلمذةً ورِسامةً وفيما بعد كتبوا البشائر الخاصة بهم والرسائل، ومن الواضح جدا حتى داخل الكتاب المقدس نفسه أهمية التقليد الرسولي، فيقول بولس الرسول " الأمر الذي دعاكم إليه بإنجيلنا، لاقتناء مجد ربنا يسوع المسيح فاثبتوا إذا أيها الإخوة وتمسكوا بالتعاليم التي تعلمتموها، سواء كان بالكلام أم برسالتنا " ، فقد جاءت كلمة " التعاليم " الموجودة في ترجمة الفانديك في اللغة الأصلية اليونانية παραδοσεις والتي تعني في الإنجليزيية tradition أي " التقليد " بالعربية، وينص القدي بولس صراحة وحرفيا على مساواة التعليم الرسولي هذا والرسائل ( أي التقليد المكتوب حيث أن القديس بولس كان يكتب هنا في الرسائل ) فقال حرفيا " سواء بالكلام أم برسالتنا " فوضع " الكلام " على نفس مستوى " رسالتنا "، ويقول أيضاً القديس بولس الرسول " وما تعلمتموه، وتسلمتموه، وسمعتموه، ورأيتموه في، فهذا افعلوا " فهُنا يرشد القديس بولس الرسل إلى ما تعلموه وما تسلموه وما سمعوه وما رأوُه، ويأمرهم بأن يفعلوا مثله، وهذا يدل صراحة على سلطة التقليد الرسولي، ويكمل أيضاً القديس بولس الرسول ويقول " ثم نوصيكم أيها الإخوة، باسم ربنا يسوع المسيح، أن تتجنبوا كل أخ يسلك بلا ترتيب، وليس حسب التعليم الذي أخذه منا " فهنا يأمرهم أن يتجنبوا كل أخ لا يسلك بحسب التعليم الذي تسلموه منهم ( أي من الرسل )، وأيضاً يكرر القديس بولس بشدة أهمية ما تسلموه منهم فيقول " فأمدحكم أيها الإخوة على أنكم تذكرونني في كل شيء وتحفظون التعاليم كما سلمتها إليكم " وهنا يوجد لفتة جميلة ففي الرسالة هذه ( الأولى إلى أهل كورنثوس ) وهى من التلقيد المكتوب يمدحهم بأنهم يحفظون " التعاليم " أي التقليد المنقول شفاهة، وهذا يعطي دلالة واضحة على أهمية التلقيد المنقول شفاهة بنفس القدر تقريباً مع التلقيد المكتوب، وفي عبارة أراها قوية لدرجة لا يتخيلها إلا المدقق يقول القديس بولس في رسالته إلى أهل غلاطية " ولكن إن بشرناكم نحن أو ملاك من السماء بغير ما بشرناكم، فليكن «أناثيما» " والتدقيق هنا يكون على النحو التالي، فإن القديس بولس سلمهم تعاليم، فيقول لهم، حتى إن بشرناكم نحن ( أي الرسل ) بتعاليم غير هذه التي بشرناكم بها بالفعل سابقاً فلنكن أناثيما، أي ملعونا، ولم يستثن الرسل أنفسهم بل ولا حتى الملائكة، بل ولم يذكر أي صنف آخر من المخلوقات، فلم يذكر مثلا تلاميذهم أو البشر العاديون، وهذا يوضح بشدة مدى اهمية وحرص الرسل أنفسهم على التقليدات التي سلموها في كل كنيسة ومكان كانوا يبشرون فيه بإسم الرب يسوع المسيح، وحرصهم الدائم القوي على صحة هذه التعاليم ومواجهة كل تعليم خاطيء يخرج عن الإطار الرسولي للتعليم الصحيح، ويقول القديس إيريناؤوس "إذا فرضنا أنّ الرسل لم يتركوا لنا كتاباتهم, ألم نكن مضطرّين أن نعتمد على التعاليم التي في التقليد كما سلّموها للذين وضعت الكنائس في عنايتهم؟"[1] بل يقول المؤرخ الكنسي يوسابيوس القيصري "إن أولئك الرجال العظماء اللاهوتيين حقّاً -أقصد رسل المسيح- أذاعوا معرفة ملكوت السموات في كل العالم, غير مفكّرين كثيراً في تأليف الكتب"[2] ومن هذين القولين يتضح بشدة أن التقليد الرسولي له اهمية قصوى وبالغة في التعليم الكنسي إذ أن لو لم يكن هناك " عهد جديد " كانت الكنسية ستعتمد فقط على التقليد الرسولي المحفوظ إلى يومنا هذا بل أن يوسابيوس يقول أن الرسل إهتموا بنشر رسالة خلاص الرب يسوع المسيح ولم يفكروا في تأليف الكتب، أي أن التقليد والتعليم كان هو العامل الأهم والشغال بالنسبة لهم، وبإختصار نستطيع ان نقول بأن كل رسول من الرسل كان يعتبر " إنجيلاً متنقلاً يقرأهُ من يذهب إليه " ليوصل إليهم رسالة وبشارة وخلاص المسيح له كل المجد، ويقول القديس أثناسيوس الرسولي في رسالته لأدلفوس الأسقف المعترف ضدّ آريوس "إيماننا صحيح يبدأ من تعاليم الرسل و تقليد الآباء و يتأكد بالعهد الجديد و العهد القديم(أي أنّ الإيمان "يتأكد بالعهدين" و ليس "يتكوّن بالعهدين")[3]". و يلخّص أهميته فيقول "علينا أن نعتبر هذا التّقليد, الذي هو تعليم و إيمان الكنيسة الجامعة منذ البدء, الذي أعطاه الرّب, و كرز به الرسل, و حفظه الآباء, و الذي عليه تأسست الكنيسة و قامت[4], و من يسقط منه فلن يكون مسيحيَّاً و لا ينبغي أن يُدعى كذلك فيما بعد"[5]
ما دور التقليد في اللاهوت الدفاعي؟، هذا هو السؤال الذي لأجله كتبت هذه المحاضرة، فإن كنا نعرف كل هذا ونؤمن به ولا غبار عليه ولا مشكلة فيه، فكيف سيفيدنا هذا التقليد عملياً في اللاهوت الدفاعي؟، الحقيقة الفوائد كثيرة للغاية، فعلى سبيل المثال، عندما نتناقش مع أحد الإخوة المسلمين، إلى مَن يكون حق التفسير؟ بالطبع المسلم خارج إطار النقاش أنه ليس له أي حق في التفسير المزاجي لكتابنا، وكلامه يساوي عدمه، فهل للمسيحي حق في التفسير؟ نعم ، للمسيحي حق في التفسير ولكن تحت ضوابط معينة، أهمها هنا هو عدم مناقضة التقليد الرسولي الراسخ في التفسير، لماذا؟ كما قلنا منذ قليل ، التقليد كان سابقاً للكتابة، وعندما جاءت الكتابة كان هناك تقليد موجوداً بالفعل في قلوب وعقول وأنفس الكنيسة الواحدة الوحيدة الجامعة الرسولية، فكان التقليد هذا يُفسِّر ما جاء في الشق الآخر من التقليد وهو " العهد الجديد " في حياة الرسل أنفسهم، فهذا التقليد المكتوب ( العهد الجديد ) جاء مؤكدا على الإيمان الموجود بالفعل ، وموثقاً له في كُتب ومن هنا نتجه للتقليد الرسولي في التفسير، أو لو أردنا نحن التفسير فينبغي علينا ألا نعارض هذا التقليد الرسولي، لماذا؟ لأن هذه الكتابات لم تُكتَب في 2012 بل منذ قرابة الـ 20 قرناً من الزمان، فالظروف جميعها تغيرت تقريبا، فلم نصبح نستخدم اللغات الأصلية للكتاب المقدس ( العبرية واليونانية ) ولا لغات الآباء ( القبطية ، اليونانية ، السريانية ، اللاتينيّة ..إلخ ) بل وتأثرنا بثقافات عربية غريبة علينا ولكن هذا التلقيد في لم يتأثر في أصله، بل صار كما هو خصوصاً لمن يدرسون علم الآبائيات ( الباترولوجي ) وهذا التقيد من نفس الزمن الرسولي أو الآبائي كحد أقصى، وهو نفسه مُسَلَّم من أباء للآباء عن آباء عن آباء، فالنصوص المكتوبة بالأحرف كانت تفهم بالتقليد، اي أن التقليد المكتوب ( العهد الجديد ) كان موثقاً بالكتابة لما هو موجود بالفعل من إيمان بالبشارة الشفهية، لذلك ، فلا يُسمح لأي شخص داخل كنيسة الله بالتفسير المناقض لهذا التقليد ، أو التفسير المزاجي، وهذا كله فضلا عن أن يفسر مُسْلِم كتابنا، بل يصح الإستشهاد بالتقليد بحد ذاته في الحوارات نفسها، كان هذا إستخداماً أولاً عملياً للتقليد في اللاهوت الدفاعي، العامل الثاني وهو عامل هام أيضاً للغاية، وهو عامل القانونية، فكيف سنعرف من كتب أي سفر في العهد الجديد ؟ وكيف سنعرف الظروف المحيطة بكل كاتب من هؤلاء؟ وكيف سنعرف قانونية السفر؟ وكيف سنعرف الكتب المنحولة وغيرها من الكتب؟ كل هذا نجده في كتابات الآباء الأوائل ومن هنا جاءت الأهمية القصوى لهذه الكتابات ، فعلى الرغم من أنها كتابات إيمانية ، أي تُسَلِّم التقليد من جيل إلى جيل إلا أنها تعبر بالنسبة للباحثين حتى من غير المسيحيين كتابات تاريخيية مهمة لدراسة لغة وثقافة وحضارة هذه الفترة الزمنية وهذه الأماكن من العالم ، هذا كان الإستخدام الثاني، وأما عن الثالث، ففي النقد النصي، فعلماء النقد النصي ، قالوا بأن الآباء قد إقتبسوا تقريبا كل العهد الجديد ( إلا آيات قليلة جداً ، تقريباً 8 ) وقال بعض العلماء أنه لو لم يكن لدينا أية مخطوطات اليوم ولا آية ترجمات لإستطعنا جمع كل العهد الجديد من كتابات الآباء فقط، وهذا كله مع الملاحظة أن ليس كل ما كتبه الآباء وصلنا، بل وصلنا كميات قليلة مما كتبوه، فالآباء كتبوا في الردود على شبهات عصرهم، وكتبوا رسائل رعوية ، وكتبوا للشرح والتفسير، وكتبوا لليتورجيا، وكتبوا أشياء أخرى كثيرة، ومن هنا فقد عاشوا الإنجيل حياةً وليس فقط قراءةً، بالطبع هُناك إستخدامات أخرى سنعرفها فيما بعد خصوصاً لمن سيكمل إلى المستوى الثاني فسيتعامل مع هذه الكتابات عملياً بلغاتها الأصلية وترجماتها.
نكتفي بهذا القدر أملاً في أن تدرسوا هذا الكلام وتقرأوه بعناية وترون ما وراء الأسطر، وتتفكرون فيه، ونسعد بتلقي أسئلتكم ومناقشاتكم..
سلام رئيس السلام ..
فريق اللاهوت الدفاعي
23-2-2012
[1]كتاب التّقليد و أهميته في الإيمان المسيحي للأب متّى المسكين صـ 47.
Roberts, A., Donaldson, J., Coxe, A. C., Donaldson, J., & Coxe, A. C. (1997). The Ante-Nicene Fathers Vol.I: Translations of the writings of the Fathers down to A.D. 325. The apostolic fathers (417).
[2]كتاب الكنيسة المسيحيّة في عصر الرسل للأنبا يؤانس أسقف الغربيّة صـ 305.
[3] Schaff, P. (1997). The Nicene and Post-Nicene Fathers Second Series Vol. IV. Athanasius. (576).
[4]كتاب التّقليد و أهميته في الإيمان المسيحي, الأب متّى المسكين صـ 7.
[5]كتاب الرُّوح القُدُس باقة من أقوال الآباء للقديسين أثناسيوس و أمبروسيوس, مركز الدراسات الآبائيَّة, نصوص آبائيَّة 91, صـ22.