حبَّة خردل _ بطرس كريسولوجوس
للقديس بطرس ذهبي النطق
أسقف رافنا بشمال إيطاليا (380 - 450م)
"فقال "ماذا يُشبه ملكوت الله؟ بماذا أشبهه؟
يُشبه حبَّة خردل أخذها إنسان وألقاها في بُستانه، فنمت وصارت شجرة كبيرة، وتآوت طيور السماء في أغصانها" (لو 13)
اليوم أيها الأخوة، لقد سمعتم كيف تم مقارنة كل عظمة ملكوت السموات بحبّة من الخردل. هذا النظير هو شيء صغير جداً، بالغ الصغر جداً، بل هو بالفعل أصغر من الأشياء الصغيرة. كيف يمكن أن تحتوي على طاقة كبيرة بهذا الشكل؟ يقول الرب أنها تحتوي عليها: "ماذا يُشبه ملكوت السموات؟ بماذا أشبهه؟"
عندما يقول "بماذا أشبهه؟"، يظهر وكأنه في موقف شخص يبحث. أنه هو وحده الكلمة (اللوغوس)، ينبوع المعرفة، ونهر الخطاب الغزير. هو يسقي قلوب الجميع، ويفتح قدراتهم على الادراك، ويضاعف مواهبهم. هل الآن يجد صعوبة في العثور على مقارنة؟!
لكن دعونا نسمع التشبيه الذي عثر عليه. "ملكوت السموات يشبه حبَّة خردل". بالبحث في السماء وعلى الأرض، هل لا يجد تشبيهاً سوى حبَّة الخردل حتى يُشير إلى القوة الكاملة للملكوت السماوي؟ هذا الملكوت عظيم بشكل فريد، مبارك بشكل أبدي، متألق باللاهوت، منتشر في جميع أنحاء السماء، وممتد على كل الأرض. هل هو يجبره ويقحمه ضمن الحدود الضيقة التي لحبَّة الخردل؟
"ملكوت السموات يشبه حبَّة الخردل". هل هذا هو الرجاء الكامل للمؤمنين؟ هل هذا هو أعلى توقعات المؤمنين؟ هل هذه هي السعادة التي تكسبها العذارى نظير جهادهم الطويل من أجل العفة؟ هل هذا هو المجد الذي يتم الحصول عليه من جراء سفك كل دماء الشهداء؟ هل هذا هو "ما لم ترَ عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على بال إنسان" (1 كو 2). هل هذا ما وعد به الرسول أنه مُعَّد للذين يحبون الله، من خلال سر لا يوصف؟
أيها الأخوة، دعونا لا نقلق هكذا بسهولة من كلام الرب. لأن أذا كانت "جهالة الله أحكمُ من الناس وضعف الله أقوى من الناس" (1 كو 1)، فإن مخلوق الله الأصغر هذا (الحبَّة) قد يعتبر شيئاً أكثر عظمة من كل عظمة العالم. آه، لو فقط نزرع حبّة الخردل هذه في عقولنا، وأن نتيح لها أن تنمو لتصبح شجرة كبيرة من المعرفة، وترتفع بنا نحو السماء من خلال ارتفاع الفهم الكامل، وتمتد في جميع فروع المعرفة، فيُحرق طعم بذرتها اللاذع أفواهنا، وتُشعل في قلوبنا لهيباً، فيبدد طعمها جهلنا الكريه.
"يشبه ملكوت السموات حبَّة خردل أخذها إنسان وألقاها في بستانه، فنمت وصارت شجرة كبيرة، وتآوت طيور السماء في أغصانها". إن ملكوت السموات مثل حبَّة خردل، لأن الملكوت يتم إحضاره بواسطة كلمة من السماء، ويتم تلقيها من خلال السمع، ويتم زرعها بالتصديق، ويتم تأصلها بالإيمان، وتنمو بالرجاء، وتنتشر بالمجاهرة، وتمتد بالفضيلة، وتنتشر في الفروع. وإلى هذه الفروع، تدعو طيور السماء، أي قوات البصيرة الروحية. وفي تلك الفروع، تستقبلهم في مسكن السلام.
ليأتي المهرطق، ليته يأتي، لأن مدخل الكنيسة مفتوح دائماً لأولئك الذين يعودون. ليته يأتي، ليته يسمع، ليته يتوقف الآن على النباح ضد محبة الرب. إذا كان عظمة الملكوت السماوي مثل حبِّة خردل، فلماذا يعترض المهرطق من أن الله نزل إلى الطبيعة البشرية، وأن الرب تنازل وأخذ صورة عبد؟ إذ أنه جاء بمثل هذه الطريقة، أيها المهرطق، حتى تزداد أهمية الملكوت بالنسبة لك بإيمانك، تماماً كما تضاءلت عندما اعتمدت على الطبيعة.
"يشبه ملكوت السموات حبَّة خردل". دعونا نرجع لحبَّة الخردل.
المسيح هو ملكوت السماء. لقد زُرع مثل حبة خردل في رحم العذراء. ونما في شجرة الصليب الممتدة فروعها عبر جميع أنحاء العالم. وانبعث طعم البذرة اللاذع عندما تم سحقه بواسطة آلامه. ومن ثم، بمجرد لمسة يعطي مذاقاً وتمليحاً لأي شيء، فيديم فيه الحياة. كلما بقيت حبة الخردل سليمة، بقيت قوتها مخبأة داخلها، لكن إذا تم سحق الحبّة، تصير قوتها واضحة بقوة. هكذا بالمثل مع المسيح، فقد أراد أن يكون جسده مسحوقاً، لأنه لم يشأ أن يُبقي قوته مخفية داخله.
أيها الأخوة، دعونا نكشط حبّة الخردل هذه، حتى نكتشف قوتها في هذا المثل. المسيح هو الملك، لأنه هو مصدر السلطان الكامل. المسيح هو الملكوت، لأن جلال ملكوته الكامل في داخله. المسيح هو الإنسان، وكل إنسان يتم تجديده في المسيح. المسيح هو حبَّة الخردل، لأن ملء عظمة الله يظهر في صورة مصغرة (بالتجسد)، داخل الشكل البشري بالغ الصغر.
لماذا أقول أكثر من ذلك؟ لقد صار المسيح كل شيء حتى يعيد كل إنسان من خلال ذاته. تلقَّى المسيح الإنسان حبة الخردل التي تُمثل ملكوت الله. فكإنسان تقبلها، مع أنه كان يمتلكها دائماً كإله. لقد زرعها في حديقته، أي في عروسه الكنيسة، التي يتحدث عنها نشيد الإنشاد: "أختي العروس جنة مغلقة" (نش 4). الكنيسة هي الجنة أو الحديقة التي تمتد من خلال عبادتها في العالم بأسره، بواسطة محراث الإنجيل. إنها جنة مغلقة بواسطة مهماز ضبط النفس، ومُطهرَّة من كل الأعشاب الضارة نتيجة لعمل الرسل. إنها حديقة جميلة للنظر بسبب أشجار المؤمنين الصغيرة، وزنابق العذارى، وورود الشهداء، واخضرار المعترفين. إنها معطرة بأزهار لا تذبل.
هكذا، ألقى السيد المسيح حبَّة الخردل في حديقته، لأجل وعد ملكوته. البذرة لها جذورها في البطاركة، مولودة في الأنبياء، ونمت في الرسل نمواً وافراً. وفي الكنيسة، صارت شجرة عظيمة، تنتج فروعاً لا عدَّ لها محملة بالمواهب، التي يعددها الرسول عندما يقول: "فإنه لواحد يعطي بالروح كلام حكمة، ولآخر كلام علم بحسب الروح الواحد، ولآخر مواهب شفاء بالروح الواحد، ولآخر عمل قوات، ولآخر نبوة، ولآخر تمييز أرواح، ولآخر أنواع ألسنة .." (1 كو 12)
أيها الأخوة، لقد سمعتم كيف نمت واتسعت حبَّة الخردل لتصبح شجرة عظيمة. لقد سمعتم أي جذور عمقتها لأسفل، وبأى نوع من الفروع العظيمة الحاملة للبذرة انتشرت سريعاً. في تلك الفروع، تتآوى طيور السماء - لا طيور الهواء - في آمان وطمأنينة الإيمان، بعد تحليقها بأجنحة الحكمة والتعقل.
أنت أيضاً، عليك أن تكون يقظاً، إذا كنت ترغب في التحرر من الخوف من الوحوش الأرضية، إذا كنت تريد أن تتجنب الطيور الجارحة، أي طيور الهواء. كل هذه هي الأهواء والرذائل. أرفع نفسك فوق الأرض وتخلى عن الأمور الأرضية. وأتخذ لنفسك أجنحة الحمامة التي لداود النبي (مز 67) ذات الألوان الفضية، الأجنحة التي تسطع بتألق الابن الإلهي. ولترفرف ولتطير هكذا مثل حمامة ذهبية، ولتستريح بين تلك الأغصان والفروع القوية المثمرة، ولتسكن هناك مثل حمامة لا يمكن إغوائها بأي من الأشراك والفخاخ، قوياً بسبب تحليقك الواثق، ومتحرراً من أي هم بسبب سكناك في حمى الكنيسة الآمن.
Reference: Fathers of the Church Series, Volume 17, Peter Chrysologus Sermons
ترجمة المدونة الآبائية