الفضيلة من الداخل أم من الخارج
لقداسة البابا شنودة الثالث
ما هو مقياس الفضيلة ؟
هو مجرد مظاهر خارجية . أم هو جوهر الإنسان من الداخل : فيأوعية قلبه وفكره ونواياه ؟
نقول هذا لأن الإنسان قد يكون في مظهره الخارجي شيئاً ما وفي حقيقته الداخلية شيئاً آخر ! قد يراه الناس في صورة معينة . ولكن الله العارف بالقلوب يجده في صورة أخري غير ما يراه الناس .
والإنسان البار يهمه قبل كل شيء حكم الله عليه وحكم ضميره . وليس رأي الناس فيه . فالناس لا يعرفون دواخله . ويحكمون حسب الظاهر .
نقول هذا لأن بعض الوعاظ . والمشرفين علي التربية يركزون علي المظهر الخارجي وحده . ولا يهتمون بنقاوة القلب من الداخل . ولا يعطونها ما تستحقه من الاهتمام الأول والرئيسي .
وسنحاول أن نضرب لذلك بعض الأمثلة :
ہہہ
مثال واضح أمام الجميع . وهو العفة والحشمة :
أهم ما يشغل الناس في حشمة الفتاة مثلاً . هو الاهتمام بمظهرها . بملابسها وزينتها . وهل هي تتفق مع الحشمة أم لا .
ولا شك أن مظهر الفتاة أمر هام .
ولكن الأهم منه هو الباعث الداخلي الذي يكمن في القلب وراء عدم الحشمة .
المفروض في رجال التربية أن يكون تركيزهم علي الداخل . وهكذا إن كان القلب نقياً وتقياً . وقد تخلص من المشاعر الخاطئة التي تدفع الفتاة إلي التبرج في زينتها . حينئذ هي نفسها من تلقاء ذاتها ستتخلي عن كل أخطاء الملابس والزينة . بدون أي ضغط عليها أو توبيخ أو عنف . بل بروح طيبة تلقائية ستسلك حسناً .
بل كما قال أحد الآباء إن الفتاة العفيفة تحتفظ بحشمتها حتي داخل غرفتها المغلقة . حيث لا مراقبة ولا من ينتقدها .. !
ہہہ
أما الإرغام علي المسلك المحتشم . فحتي إن كان يُصلح الشكل والمظهر . فإنه لا يصلح القلب من الداخل . بل يبقي بنفس رغباته وشهواته . وربما يضاف إليه بعض مشاعر من التذمر والكبت والضيق . مع انتظار أية فرصة للحرية والانطلاق . حيث لا رقيب .
أما إذا تنقي القلب . فإنه حينئذ سينفذ كل التوجيهات والنصائح برضي وقبول . أو قد لا يحتاج إلي نصائح . فمن ذاته يسلك حسناً .
وبالمثل نتحدث عن الشاب الذي يطيل شعره . ويلبس ملابس غير لائقة . ويكون موضع انتقاد كشخص غير متدين .
هذا الشاب يحتاج أن تتغير قيمه وموازينه من الداخل . فيعرف ما هي معاني الرجولة وقوة الشخصية ؟ وأنه لا يستطيع أن يكتسب احترام الآخرين وتقديرهم بمنظره الزائف . فإن اقتنع بهذا من الداخل . فبلا شك سوف يغيّر مظهره . بدون توبيخ وبدون قهر أو زجر .
ہہہ
إن الإصلاح من الداخل هو أكثر ثباتاً ورسوخاً في النفس .
وبه ينصلح الإنسان بطريقة حقيقية بدافع من الاقتناع . ولا يقع في تناقض بين ما يريده هو . وما يريده له المرشدون . ولا يكون معرضاً لصراع بين داخله وخارجه . كما أنه لا يكون تحت ضغط بحيث يتلمس ظروفاً للانفلات من هذا القهر الخارجي .
فلنبحث إذن عن الأسباب الداخلية التي تدفع إلي الأخطاء الخارجية ونعالجها :
ہہہ
لنأخذ الكذب مثلا كظاهرة . ونبحث أسبابها لنعالجها :
الشخص الذي يكذب : هل ستصلحه عظات عن مضار الكذب . أو توبيخ له علي كذبه ؟ أم أن الأعمق تأثيراً عليه وإصلاحاً له . أن ندخل إلي أعماقه .
ونبحث ما هي الأسباب التي تجعله يكذب ؟
هل السبب في الكذب هل تغطية خطأ معين يخشي من انكشافه ؟
أم الرغبة في الحصول علي منفعة ما ؟
أو القصد من الكذب هو الافتخار والتباهي ؟
أو التخلص من الإحراج ؟ أو السبب هو الخجل ؟
أم هي قد أصبحت عادة . بحيث يكذب حتي بلا سبب ؟
أم هو يكذب بقصد الفكاهة . أو بقصد الإغاظة ؟ أو التلذذ بالتهكم علي الناس ؟ !
ہہہ
نبحث عن سبب الكذب ونعالجه . ونقنع صاحبه بعدم جدواه . ونقدم له حلولاً عملية للتخلص من كذبه . أو بدائل لا خطأ فيها .
كالصمت مثلاً إذا أُحرج . أو الهرب من الإجابة بطريقة ما . أو الرد علي السؤال بسؤال . أو الاعتذار عن الخطأ بدلاً من تغطيته بالكذب . وكذلك الاقتناع بخطأ التباهي . وخطأ التهكم علي الناس . إن كان هذان من أسباب الكذب . مع الاقتناع أيضا بفائدة كسب ثقة الناس واحترامهم عن طريق الصدق . بدلاً من فقد ثقتهم عن طريق الكذب .
وهكذا نعالج الداخل . فيزول الخطأ الخارجي تلقائياً .
ہہہ
وكما نهتم بالداخل . نهتم أيضا بأعمالنا الخارجية . فالمفروض فينا أن نكون قدوة . كما أن أخطاءنا الخارجية تسبب عثرة للآخرين .
والواجب أن يسلك الإنسان من الخارج مظهراً وفعلاً سلوكاً حسناً مع اعتبارين : أن يكون السلوك الطيب لإرضاء الله وليس فخراً . كما أن هذا السلوك الخارجي الطيب يكون طبيعياً نابعاً من نقاوة القلب .
فإن كنت لم تصل إلي نقاوة القلب هذه . فاغصب نفسك علي ذلك في سلوكك الخارجي . حتي لا تخطيء فتفقد ثقة الناس بك واحترامهم لك .
ولا يعتبر هذا لوناً من الرياء . إنما يكون في هذه الحالات لوناً من ضبط النفس . ولا شك أن ضبط النفس من الخارج لازم ومطلوب . ويدخل في نطاق التداريب الروحية التي يصل بها الإنسان إلي حياة النقاوة .
ہہہ
إذن نظّف داخلك ليتفق مع وضعك الخارجي السليم ..
ولا تهبط بمستواك الخارجي . إن كان مستواك الداخلي غير سليم
المفروض أن تكون نقياً من الداخل ومن الخارج . فحاول أن تصل إلي الأمرين معاً . فإن بدأت بأحدهما . أكمل بالآخر أيضا .
احتراسك الخارجي ممدوح . ولكن لا تكن مكتفياً به . بل أضف إليه النقاوة الداخلية . وليكن هذا هو تدريبك في كل الفضائل .
ہأخذ مثالاً هو الصوم : من جهة السلوك الخارجي والعمل الداخلي .
ليس الصوم هو مجرد فضيلة خارجية خاصة بالجسد وحده من جهة الامتناع عن الطعام وشهوات الأكل . إنما ينبغي أيضا منع النفس عن الأخطاء . ويتمشي المنع الداخلي للنفس مع منع الجسد .
فإن كان الإنسان لم يصل إلي هذا المستوي الروحي في داخله . فليس معني هذا أن يكسر صومه ويفطر ! وألا يكون قد انحلّ جسداً وروحاً .. بل عليه أن يدرب قلبه من الداخل . ليتمشي مع صوم الجسد من الخارج . ولو بالجهد والتدريب .
ہہہ
وبهذا يمكننا أن نضع قاعدة روحية للتوازن بين المستويين الداخلي والخارجي وهي :
إن كان أحد المستويين مرتفعاً والآخر منخفضاً . ارفع المنخفض إلي مستوي المرتفع .
ولكن لا تكتف مطلقاً بأن تسلك حسناً من الخارج . فالله ينظر أولاً إلي القلب . إنما جاهد باستمرار أن تنقي قلبك . وأن يكون كل سلوكك الخارجي السليم هو مجرد تمهيد أو تدريب للعمل الجواني داخل النفس .
وكثيراً ما تكون التنقية الخارجية وسيلة للتنقية الداخلية :
مثال ذلك شاب تحاربه في داخله أفكار شهوانية جسدية لا تتفق مع حياة العفة . وربما تسبب له أحلاماً دنسة تتعبه .. أتراه يستطيع أن يسلك من الخارج هكذا . ليكون خارجه تماماً كداخله ؟ ! كلا بلا شك . وإلا فإنه يضيّع نفسه . ويضيف إلي خطايا الفكر والقلب . خطايا العمل والحسّ والجسد .
مثل هذا . عليه أن يحترس جداً من الخارج . وهذا الاحتراس الخارجي يساعده علي النقاوة الداخلية . وبالتالي تخف عليه الحروب الداخلية .
ہہہ
لذلك . لا تيأس مطلقاً . ولا تقل ما فائدة النقاوة الخارجية . إذا كان الداخل دنساً ؟ ! كلا . إن صمودك الخارجي يعني رفضك للخطيئة .
أضف إليه صموداً آخر ضد الأفكار . وثق أن الله سيعينك عليها . ومن أجل أمانتك من الخارج . سيرسل الله لك نعمة تنقذك من حرب الفكر في الداخل .. بل إن احتراسك من الخارج سيمنع عنك حروباً داخلية كثيرة . وعلي الأقل سوف لا تحارب في ميدانين في وقت واحد . وحرصك من الخارج سيدخل عنصر الحرص في حياتك بصفة عامة . ولا يسمح للخطية أن يكون لها سلطان عليك .
حتي إن جاءتك الخطية في حلم . وأنت في غير وعيك . يكون عقلك الباطن متنبهاً لها تماماً ورافضاً لها . وهكذا لا تخطيء في أحلامك أيضا .
هذا كله من الناحية السلبية . في رفض الخطأ . فماذا إذن من الناحية الإيجابية ؟ نقول إنه إذا تنقي القلب . تكون كل أعماله الفاضلة ذات دوافع روحية . ومن أجل الله وحده . وليس من أجل الذات .
ہہہ
فلا يفعل الإنسان الخير . من أجل أن تكبر ذاته في عينيه . ولا من أجل أن يكبر في أعين الناس .
وكلا الأمرين يدخلان في نطاق خطيئة المجد الباطل . ويدفعان المرء إلي خطيئة الرياء . ويصبح هدفه من عمل الخير هو أن ينال مديحاً من الناس . وبهذا يهتم فقط بالمظهر الخارجي . حيث يراه الناس ويمجدونه !
وبالاهتمام بالمظاهر الخارجية . لا يصبح الخير الذي يفعله الإنسان خيراً حقيقياً مقصوداً لذاته . إذ قد امتزج بالخيلاء ومحبة الذات ومحبة المجد الباطل . ولا يكون هدفه نقياً .. إذ ليس هدفه حب الخير . ولاطاعة الله . وليس هو صادراً عن نيّة طيبة ولا عن طبيعة نقية .
ہہہ
وهنا نسأل : هل معني هذا أننا لا نفعل الخير مطلقاً أمام الناس . حتي لا نتعرض إلي مديح منهم . وننال أجرنا علي الأرض لا في السماء ؟ !
كلا . وإنما لا يكن هدفنا من الخير أن ننال مديحاً من الناس . بل نفعل الخير سواء رآنا الناس أم لم يرونا . مدحونا أم لم يمدحونا .. كذلك إن امتنعنا عن عمل الخير خوفاً من المديح . سنفقد رسالتنا كقدوة للناس . وقد نوقعهم في مذمتنا . إذ لا يرون في حياتنا خيراً !
ومن جهة المديح . كان الرسل والأبرار في كل جيل يقابلون بمديح من الناس ومازال المديح يلاحقهم حتي بعد موتهم ولم يكن في ذلك خطأ ولا خطيئة . ومن غير المعقول أن يتوقف البار عن عمل الخير تماماً . لكي ينجو من مديح الناس !
ہہہ
إذن كيف نوفق بين كل هذا . وبين فضيلة عمل الخير في الخفاء ؟
إن هناك أعمالاً كثيرة لابد أن تكون ظاهرة :
مثل نجاحنا في أعمالنا . وتفوقنا . وأمانتنا في كل مسئولية تعهد إلينا . كذلك ذهابنا إلي أماكن العبادة . واشتراكنا في الصلوات العامة والأصوام العامة . ومساهمتنا في خدمة الآخرين وإعانتهم . والعضوية الفعالة في كل أعمال البر . أترانا نترك كل هذا خوفاً من أن يظهر برنا أمام الناس فيمدحوه ؟ ! كلا بلا شك .
فليست خطيئة أن يعرف الناس ما نفعله من الخير . إنما الخطيئة هي أن يكون الهدف من فعل الخير أن يراه الناس فيمدحوه .
فإن كنت تفعل الخير . وقلبك نقي من محبة المظاهر . وليس هدفك أن يراك الناس ..
إذن فلا تهتم مطلقاً إن عرف الناس أنك فعلت ذلك .
ہہہ
في عمل الخير . كن محباً للخير . ولا تكن محباً للمديح .
وإن وصل المديح إلي أذنيك . لا تدعه يدخل إلي قلبك . بل اذكر نعمة الله التي ساعدتك علي عمل الخير . ولولاها ما كنت تستطيع أن تعمل شيئاً .
وأهم من إخفائك فضائلك عن الناس . حاول أن تخفيها أيضا عن نفسك . وذلك بأن تنسي الخير الذي عملته من فرط تفكيرك في خير أكبر تريد أن تفعله . مصلياً أن يمنحك الرب الفرصة لعمله . والقدرة علي عمله . واشكر الله علي معونته .