الشباب والتوبة
الأنبا موسى الأسقف العام
التوبـــــــــة
التوبة هى الصحوة الروحية التى فيها يتحرك الإنسان بوعى كامل وإصرار ثابت من منطقة الخطية
والتعدى، إلى حضن المسيح، وحياة الكنيسة والتوبة فى كنيستنا الأرثوذكسية، وبحسب المفهوم الكتابى يجب أن تشمل على :
1- الندم على الخطيئة :
من كل القلب بحيث يشعر التائب أن
ما عاشه نوع من الموت الروحى، والإنفصال عن الله، والتدبير المستمر للكيان الإنسانى. فالخطيئة - بالقطع - تدمر الروح الإنسانية، إذ تحرمها من نسيم الروح القدس، وفرحة الرضا الإلهى. كما أن الخطيئة تدمر الذات، فالعقل المنشغل بالآثام، يستحيل أن يكون قادراً على التركيز والإنتاج، كما لا يمكن أن يكون مستنيراً بنور الله، قادراً على الإفراز والتمييز، وعلى إختيار القرار السليم والخطوة الصائبة. كذلك تدمر الخطيئة النفس، فالنفس الآثمة تكون دائماً مرتبكة ومنفلتة وغير متماسكة، فاقدة للسلام والسعادة "لا سلام قال الرب للأشرار" (أش 22:48). بينما تكون النفس التائبة المنضبطة بالروح، والمقدسة بالنعمة، قادرة على قمع تيارات الإثم العاملة فى الداخل والخارج معاً، إذ تسيطر بقوة الروح القدس على غرائزها، وحاجاتها النفسية، وعلى عاداتها وعواطفها وإتجاهاته فتصير نفساً هادئة، يشع منها سلام سمائى. كما أن الخطيئة تدمر الجسد، فالنجاسة أمراضها الخطيرة، وأخطارها الإيدز الذى يحطم جهاز المناعة، والكالاميديا التى تصيب الأثنى بالعقم الهريس المؤلم والضار وكذلك التدخين الذى يدمر الرئتين والقلب والمعدة والإبصار... والمخدرات التى تسبب فى ضمور العقل... والخمر التى تتسبب فى سرطان الكبد وفشل الكلى. كذلك فالخطيئة تدمر العلاقات الإنسانية، إذ يستحيل على إنسان أن يقبل التعاون والصداقة مع إنسان شرير ومنحرف... هكذا تكون التوبة هامة فى حياة الإنسان، وأول مقوماتها الندم على الخطايا، وهكذا يتقدم التائب إلى...
2- العزم على ترك الخطيئة :
فبدون هذا العزم، يتحول التائب إلى إنسان يتمنى دون أن يجاهد، ويتكلم دون أن يفعل. مظهراً للرب نية صادقة فى التوبة والجهاد والحياة المقدسة.
3- الإيمان بدم المسيح :
فبدون هذا الدم الإلهى يستحيل أن يخلص إنسان، لأن دم المسيح: يغفر لنا خطايانا... "لأن لنا فيه الفداء بدمه غفران الخطايا"
(أف 7:1، كو 14:1).
يطهرنا من كل خطيئة... فالغفران يخص الماضى، أما التطهير فيخص الحاضر "دم يسوع المسيح إبنه يطهرنا من كل خطية" (1يو 7:1).
يقدسنا للرب... "لأن يسوع لكى يقدس الشعب بدم نفسه، تألم خارج الباب" (عب 12:12).. والقداسة هنا تعنى التخصيص، بحيث يكون الإنسان بكل كيانه للرب.
يثبتنا فيه.. "من يأكل جسدى ويشرب دمى، يثبت فىّ وأنا فيه" (يو 56:6) فالتناول من جسد الرب ودمه هو وسيلة إلهية قوية للثبوت فى الرب، فكراً، ووجداناً، وسلوكاً...
يحينا حياة أبدية... لأن "من يأكل جسدى ويشرب دمى له حياة أبدية" (يو 54:6) فالتناول إذن هو طريق الملكوت والخلود. الإنسان التائب لا يعتمد على زراعه البشرى الضعيف، خلواً من القوة الإلهية، والنعمة المخلصة لجميع الناس، أنه يجاهد قدر طاقته كى لا يسقط، ولكنه يعتمد على اقتدار الرب فى الخلاص، ومعونة نعمة الله العاملة فيه.
4- الإعتراف أمام الكاهن :
وهذا تتميماً لكلام السيد المسيح للتلاميذ: "فكل ما تربطونه على الأرض يكون مربوطاً فى السماء، وكل ما تحلونه على الأرض يكون محلولاً فى السماء" (مت 18:18) ذلك لأن الرب بعد قيامته المجيدة، قال لتلاميذه: "من غفرتم لهم خطاياهم تغفر لهم، ومن أمسكتم خطاياهم أمسكت" (يو 23:20) وفى الإعتراف، يأخذ التائب - كما علمنا قداسة البابا شنوده الثالث - حِلاً وحَلاً... الحل من الخطايا، والحل للمشكلات الروحية التى تعوق نمونا الروحى. والإعتراف ضرورة كتابية وعملية إذ يجتاح الإنسان إلى خبرة أكبر تقوده وترشده، وضرورة نفسية ففيها تستريح النفس المجهدة من توترات السقوط والضغوط والمشاكل. ذلك كله بفعل روح الله القدوس العامل فى سر التوبة والإعتراف، والقائد لكل من الأب الكاهن والإنسان المعترف... التوبة - إذن - هى الهدف الأول من الخدمة، لأن الرب قد قال: "أن لم تتوبوا، فجميعكم كذلك تهلكون" (لو 3:13،5)...
أن النداء الأساسى للخادم، وهو نفس ندار المعمدان: "توبوا لأنه قد اقترب منكم ملكوت السموات" (مت 3:2)، وهو نفس
ما نادى به بعد ذلك رب المجد، موصياً تلاميذه قائلاً: "وفيما أنتم ذاهبون اكرزوا قائلين: أنه قد اقترب ملكوت السموات" (مت 7:10).
ملامح هامة للتوبة
1- سريعة : "أنها الآن ساعة لنستيقظ من النوم، فإن خلاصنا الآن أقرب مما كان حين آمنا" (رو 11:13).
"الله الآن يأمر جميع الناس فى كل مكان أن يتوبوا، متغاضياً عن أزمنة الجهل" (أع 30:17).
"اليوم إن سمعتم صوته فلا تقصوا قلوبكم" (عب 7:3، 7:4). "هوذا الآن وقت مقبول، هوذا الآن يوم خلاص" (2كو 2:6)...
أن خطورة تأجيل التوبة تأتى من التالى: من يضمن عمره، حتى يؤجل توبته إلى الغد؟! القيود الحريرية للخطية، ستتحول مع الوقت إلى قيود حديدية، تصعب معها التوبة، وتتطلب جهاد أكبر... أن تأجيل التوبة يعطى فرصة لأصدقاء السوء أن يسحبونا إلى الخلف، ويورطونا فى نوعيات وكميات من الخطايا، أكثر مما كان. أن التائب الصادق، يجب أن ينطلق بتوبة كالصاروخ حامل
سفينة الفضاء، الذى يجب أن يمزق
عنان السماء بسرعة معينة، حتى يفلت من الجاذبية الأرضية.
2- حاسمة : فالتائب المتردد "لا يظن أنه ينال شيئاً من عند الرب" (يع 7:1)، "رجل ذو رأيين هو متقلقل فى جميع طرقه"
(يع 1:
... ومن المهم أن يحسن الإنسان أموره، بعد أن يحسب حساب النفقة.
إن الحسم ينتج من الإقتناع... فإذا ما أقتنع الإنسان بخطورة الخطيئة، وإمكانيات الدمار الهائل الذى تحدثه فى الكيان الإنسانى،
سوف يسرع بالتوبة دون تردد. من هنا نقول أن التوبة العقلانية أكثر ثباتاً من
التوبة العاطفية. توبة الحسابات أثبت وأعمق من توبة الإنفعالات. توبة الإقتناع الواعى أقوى من توبة المشاعر الجياشة... نعم... لابد من عاطفة ومشاعر نحو الرب...
لكم المشاعر دون إقتناع، لا تثبت أمام عواصف الشيطان.
3- شاملة : فالتوبة السليمة يجب أن تشمل كل جوانب النفس، وزوايا الحياة... أنها توبة الفكر، عن كل إنحراف ذهنى. وتوبة الحواس عن كل استخدام خاطئ. وتوبة القلب، عن كل مشاعر سلبية. وتوبة الإرادة، عن كل نية غير سليمة أو إتجاه غير بنّاء.
وتوبة الأعمال، عن كل تصرف سلبى، أو سلوك لا يمجد الله.
وتوبة الخطوات، إذ تلتزم بطريق الملكوت.
4- مستمرة : فالتوبة فى المفهوم الأرثوذكسى والكتابى - هى توبة مستمرة طول العمر.. وهذا واضح من غسل الرب لأرجل تلاميذه، دون تكرار أن نغسلها..
وما أحلى أن يحاسب الإنسان نفسه بعد كل سقطة، ويقوم!! ولكن أحلى من ذلك، أنه يحاسب الإنسان نفسه قبل أى سقطة، فينتصر بنعمة الله!! أن التائب الحقيقى يتوب كل يوم بل كل لحظة راجعاً بقلبه إلى الله على الدوام.. أنه فى حركة دائبة بين الترابيات والسمائيات.. كلما جذبه العالم أو الجسد
أو إبليس إلى أسفل.. أسرع منتفضاً ومنطلقاً إلى أعلى. التوبة تجديد ذهنى مستمر..
ومانيا دائمة.. التوبة قيامة أولى.. وحياة متجددة.. تمهدنا للقيامة الثانية وتنقذنا من الموت الثانى.
5- مثمرة : "اصنعوا أثماراً تليق بالتوبة" (مت 8:3)... فالمسيحية لا تكتفى بالشق السلبى فى التوبة، أى الخلاص من السلبيات، بل تتجه بنا إلى الشق الإيجابى، أن نصنع أعمالاً مقدسة، ونطرح ثمار. لائقة لقد أثمرت السامرية بتوبتها قداسة شخصية وخدمة جهارية.. وأثمر زكا بتوبته عطاء سخياً، وتعويضاً مناسباً لمن ظلمهم... وأثمرت المجدلية حباً، وبقدر ما أحبت الخطيئة، أحبت الرب، محبة نادرة وقوية.