المحبة الخاطئة للذات
بقلم قداسة البابا شنوده الثالث
كل إنسان يحب ذاته. والمحبة الحقيقية للذات هى قيادتها في حياة البِرِّ والفضيلة للوصول إلى أبدية سعيدة. على أنه توجد محبة خاطئة للذات. وهذه ستكون موضوع مقالنا اليوم.
?? إن الذات هى أقدم وأخطر عدو حارب البشرية. والشيطان لا يُحاربك بقدر ما تُحاربك ذاتك. بل إن الشيطان في غالبية هجومه لك، يُحاربك بذاتك. وكل الحروب الخارجية التي تأتي عليك، لا يكون لها تأثير إلاَّ إذا استسلمت الذات لها. فإن رفضتها الذات تكون كأنها لا شيء. فيوسف الصديق أتته حرب خارجية عنيفة من جهة الإغراء. ولأن ذاته كانت قوية، لذلك انتصر على كل تلك الإغراءات. إن الذات النَّقيِّة ترفض حتى الفكر الخاطئ ولا تتفاوض معه. وقوة الذات تأتي هنا من غلق أبواب الفكر وأبواب القلب أمام كل اقتراح خاطئ يُقدِّمه الشيطان. ولذلك قال الآباء: " إن اصطلحت مع ذاتك، تصطلح معك السماء والأرض ". أي إنك إن استطعت في داخلك أن تُقيم صُلحاً بين جسدك وعقلك وروحك وضميرك، ويسير الثلاثة في طريق واحد هو طريق الروح، ولا يشته الجسد ضد الروح، ولا الروح ضد الجسد ... حينئذ تصطلح معك السماء والأرض. فلا تخطئ إلى اللَّه، ولا إلى الناس، ولا إلى نفسك.
?? ولكن يقع الإنسان في الخطيئة، حينما يحب ذاته محبة خاطئة. أي أنه يُدلِّل ذاته، ويعطيها كل ما تطلب وكل ما تشته! وقد تريد الذات أحياناً أن تعيش في حياة اللذة، سواء كانت لذة جسدية أو حسية، أو لذة تتعلَّق بشهوات العالم الحاضر ... حينئذ تكون المحبة الحقيقية للذات، هى أن تؤدِّب هذه الذات إن أخطأت، وتقوِّم طريقها كلما انحرفت. بل إذا أدَّى الأمر عليك أن تُعاقِب ذاتك، وأن تقف ضد رغباتها الخاطئة.
?? ومن الأخطاء الواضحة للذات، أنها تريد أن تكبر باستمرار. وقد يكون ذلك لوناً من الطموح الطبيعي. ولكن الخطأ الذي تقع فيه الذات أنها تريد أن تكون كبيرة من الخارج وليس من الداخل! أعني أن تكون كبيرة بمظاهر خارج النَّفس: كالمناصب والألقاب، والغنى والشهرة، ومديح الناس. وكل هذه أمور لا علاقة لها بطبيعة النَّفس ونقاوتها. وكسب المديح للذات وتمجيدها من الخارج هى أمور من المفروض في الإنسان الروحي أن يرتفع عن مستواها. فما قيمة هذه الأمور كلها بالنسبة إلى أبديته؟!
?? ومن مظاهر هذه الحرب الروحية ما يسمونه بعبادة الذات أو عشق الذات: إذ يريد الإنسان أن تكون ذاته جميلة في عينيه، وجميلة في أعيُن الناس، بلا عيب أمامه ولا نقص. كما لو كان يؤمن بعصمة ذاته، أو أنه لا يمكن أن يخطئ!! إنه مُعجب بذاته. كما لو كان يحب باستمرار أن ينظر إلى مرآة ويتأمَّل محاسنه! وفي محبته الخاطئة لذاته، لا يمكن أن يحتمل إهانة، مهما كانت ضئيلة. ولا يحتمل نقداً، ولا يحتمل أن يُكلِّمه أحد بصراحة. إنه يرى كل ذلك تشويهاً لصورته التي يريدها دائماً أن تبقى جميلة رائعة أمام الناس ... ولا يقبل أن يُصحِّح له أحد أخطائه. وهكذا تكون محبته الخاطئة لذاته سبباً في بُعده عن حياة التوبة. بل تكون محبته الخاطئة للذات هذه خطراً على أبديته.
والعجيب أن الذي يحب المديح، لا يكتفي بمديح الناس. بل يتطوَّر إلى أن يتحدث كثيراً عن نفسه ويمدحها أمام الآخرين! وفي حديثه عن نفسه لا يكون عادلاً فهو لا يتحدَّث إلاَّ عن محاسن ذاته وإنتصاراتها وأمجادها. بينما يخفي ما فيها من عيوب ومن نقائص! وإن أظهر له أحد بعض هذه العيوب، يحاول أن يُبرِّرها ويُدافع عنها.
?? وأحياناً من مظاهر المحبة الخاطئة للنفس أنها تطلب أحياناً حرية كاملة لتفعل ما تريد. وقد تقودها هذه الحرية إلى أهداف خاطئة عديدة. ولا ننسى أن الوجوديين، قد وقعوا في هذا الخطأ المُرعب. إذ رأوا بسبب شهواتهم الخاصة، أن وجود اللَّه يُعطِّل وجودهم أي يُعطِّل رغباتهم الخاطئة وشهوات أنفسهم. فقادهم ذلك إلى الإلحاد.
?? والمحبة الخاطئة للذات، كثيراً ما تدعوها إلى تبرير أخطائها، وإلى أن تغطي على أخطائها بالأعذار!! وهكذا نرى الذات تعتذر عن إهمال الصلاة بقلة الوقت وكثرة المشاغل! وتعتذر عن التقصير في إعطاء الفقراء بقلة المال في الظروف الحاضرة! وهنا قد لا يدفع المسيحيون العشور، ولا يدفع المسلمون الزكاة. وقد يصل الأمر إلى الإدعاء بأن الفقراء هُم جماعة من المحتالين وليس من المحتاجين!
?? وأحياناً نرى أن الإنسان المُعتد بذاته، قد يصل إلى العناد وتصلُّب الرأي. ويرى أن فكره هو الفكر الصائب وفوق الكل. لا يقبل فيه معارضة، بل يُعادي مَن يُعارضه أو يكرهه، أو يعمل على تحطيمه! أو على الأقل يتجاهل الرأي الآخر. وفي محبة الإنسان لذاته، قد يقع في الغيرة والحسد. ويكون شديداً جداً من جهة منافسة غيره. وتبدأ الذات حرباً مع كل مَن ينافسها أو يسير في نفس الطريق. إنها تريد أن تكبر وأن تكبر وحدها. وقد تنتقد الغير، لكي تثبت أنه أقل منها. فهى الوحيدة التي يجب أن تتركز عليها الأضواء.
?? والمُحب لذاته محبة خاطئة، يُلقي بمسئولية أخطائه على غيره. فإن كان طالباً ورسب في الامتحان. فيشكو إمَّا أن واضع الامتحان كان قاسياً في أسئلته، وإمَّا أن المُصحِّح لم يكن رحيماً في تصحيحه. وإمَّا أن اللَّه لم يسنده في امتحاناته!
والمُحب لذاته إحياناً يكون كثير التَّذمُّر ويشكو. إن كان رئيساً يشكو من أخطاء مرؤوسيه. وإن كان مرؤوساً يشكو من رؤسائه وزملائه. وإن كان ولا أحد من هؤلاء قد أخطأ، حيئنذ يشكو من الأنظمة والقوانين واللوائح! المُهم أنه يدَّعي باستمرار أنه مظلوم.