لقداسة البابا المعظم الأنبا شنودةالثالث
ماهي الكآبة ؟ وما مظاهرها . وما أسبابها ؟ وما نتائجها . وما علاجها ؟
هذا ما نود ان نتحدث عنه في هذا المقال . مفرّقين بين الكآبة السليمة . والكآبة السقيمة عرضاً كانت أو مرضاً ..
ونذكر هنا أيضاً أنواعاً عديدة من الكآبة .. منها الكآبة الروحية . والكآبة الطبيعية . والكآبة الخاطئة . والكآبة المرضية وعلاجها ..
vالكآبة الروحية : -
هي كآبة لأسباب روحية . وتكون مؤقتة . ومعها عزاء ورجاء وتنتهي غالباً بالفرح .
ýمثال ذلك كآبة الانسان بسبب أخطائه . أو وقوعه في خطيئة معينة . وهي كآبة يصحبها الندم . وتقود إلي التوبة . واذا ما وصل صاحبها إلي التوبة . يتحول حزنه إلي فرح . وإلي عزاء داخلي في أعماق قلبه . إذ أنه قد بدأ في إصلاح سيرته ..
ý· وقد يكون سبب الكآبة عاماً وليس خاصاً . حينما يحزن الأبرار بسبب الشر المنتشر في العالم . وبسبب الإغراءات والانحرافات التي تسقط كثيرين . وتدفعهم كآبتهم إلي العمل علي قيادة هؤلاء الخطاة إلي طريق البر . وتسهيل عودتهم إلي الله . كل ذلك بمشاعر مقدسة وصلوات إلي الله . لكي تعمل نعمته ومعونته في اضاءة ضمائرهم .
vالكآبة الطبيعية : -
ýمن أمثلتها الحزن والبكاء علي وفاة قريب أو صديق عزيز .
ýأو الحزن علي مرضه بأحد الأمراض المستعصية أو الشديدة الألم .
ýكذلك بسبب الكوارث والحوادث والخسائر .
ýوايضا الحزن بسبب الفشل في مشروع هام .
ýأو الرسوب في أحد الامتحانات أو عدم التفوق فيه . أو عدم الحصول علي وظيفة ..
كل هذا شئ طبيعي . لكنه لا يصح ان يستمر بدون رجاء ..
vالكآبة الخاطئة : -
وهي التي تحوي الخطيئة داخلها . ولها أمثلة عديدة ..
1-منها كآبة شخص في قلبه شهوة خاطئة لم يستطع تحقيقها .. !
ذلك لأنه ليست كل الفرص متاحة أمام الخاطئ لكي يكمل شهواته . وربما تكون نعمة الله هي التي سمحت بوجود صعوبات حتي لا يكمل بالعمل ما أراده بالقلب . من ذلك كآبة تلميذ فشل في الغش فلم ينجح ..
وعلاج مثل هذه الكآبة هو علاج الدافع عليها . وذلك بتنقية القلب . حتي لا يشتهي ما هو خاطئ .
2-هناك أيضاً كآبة سببها الغيرة والحسد
وهنا خطيئة تقود إلي خطيئة اخري . فعدم الفرح بنجاح الآخرين . تقود الغيرة منهم إلي حسدهم . ويقودهم كل ذلك إلي الكآبة .. والمفروض ان الغيرة تدفع الانسان إلي الاجتهاد لكي يصل إلي ما وصل اليه غيره . وليس إلي الحسد والحزن .
3-هناك كآبة أخري سببها اليأس
اليأس أيضاً خطأ يقود إلي خطأ . وما يوصّل إلي اليأس هو خطأ آخر قاد إلي اليأس . والمثل يقول "إن فاتتك فرصة . فالتمس غيرها .. والانسان المؤمن - إذ يتكل علي الله - يوقن ان الله عنده حلول كثيرة . ويوقن أيضاً ان كل باب مغلق . له مفتاح يفتحه . أو عدة مفاتيح . بينما اليأس يغلق الطريق أمامه . ويتركه حائراً وبلا حلّ ..
4-لذلك هناك كآبة انسان ينحصر بالضيقات حزيناً بلا رجاء !
ونصيحتي لمثل هذا الانسان : لا تجمع المشاكل معاً . وتكومها أمامك وتقف حزيناً . بلا حلّ . وبلا رجاء . وبلا تفكير في كيفية الخروج منها . وبلا اتكال علي الله . أو انتظاره لحلها ..
إن الكآبة التي بلا رجاء . هي كآبة خاطئة . حتي لو كانت بسبب طبيعي كالبكاء علي ميت .. لذلك إن أحاطت بك المشاكل . فرّقها . واجعل الله بينك وبينها . فتختفي وتظهر معونة الله .
5-هناك نوع من الكآبة بسبب الحساسية الزائدة ..
إذ قد يوجد شخص حساس جداً نحو كرامته . أو حساس جداً من جهة حقوقه . ومن جهة معاملات الناس له . فهو يتضايق جداً لأي سبب . أو لأتفه سبب . أو ربما بلا سبب ! ويريد معاملة خاصة . في منتهي الرقة . وفي منتهي الدقة . وفي منتهي الحرص . فإن لم يجدها - وطبعاً نادراً ما يجدها - حينئذ يكتئب ..
وربما يقوده هذا الاكتئاب إلي العزلة عن الناس . وإلي النفور من المجتمع . الذي - في نظره - لايراعي شعوره !
6-وهكذا يأتي الاكتئاب أيضاً للذين لا يعيشون في الواقع بل يرفضونه . ولايضعون له سوي بديل خيالي لا يتحقق ..
فهم ثائرون علي وضعهم . ولكنهم لا يحاولون تغييره بطريقة عملية توصلهم إلي ما يريدون . إنما يكتفون بالثورة أو بالتذمر . ويبقون حيث هم في كآبة وفي سخط علي كل شئ ..
وإن أتتهم سعادة مؤقتة . تتكون ببعض أحلام اليقظة . التي يعيشون فيها في خيال يتمنونه . ثم يستيقظون من أحلامهم وخيالاتهم . ليجدوا الواقع كما هو . فيزدادوا سخطاً عليه . وتزداد كآبتهم تبعاً لذلك .
نصيحتي إلي هؤلاء ان يكونوا واقعيين . فإما ان يعيشوا في قناعة تسعدهم . راضين بما عندهم وما هم فيه . بل شاكرين أيضاً .
وإما ان يعملوا علي تغيير واقعهم عملياً . ولا يكتفون بالكآبة .
7-وقد يتسبب الاكتئاب عن ضيق الصدر وعدم الاحتمال :
فالانسان الواسع الصدر والقلب . يستطيع ان يمرّر أشياء كثيرة تذوب في قلبه الواسع . ولا يضيق بها أو يكتئب بسببها . أما الذين لا يحتملون . فما أسهل وصولهم إلي الكآبة ..
ولاشك ان سعة الفكر تعالج الكآبة . فبدلاً من الاكتئاب بسبب المشكلات . يفكر في حلّ لها . والانسان الذكي اذا أحاطت به مشكلة أو ضيقة . بدلاً من إرهاق أعصابه ونفسيته بالمشكلة ومتاعبها . يشغل ذهنه بإيجاد حلّ للخروج من المشكلة .
فإن وجد الحل . يبتهج وتزول حدة المشكلة . وإن لم يجد . يصبر فربما بالوقت تنتهي المشكلة . أما الذي لا يستطيع ان يصبر . فلاشك انه ضيق الصدر . وهذا تزداد كآبته . ويكون سببها قلة الحيلة ..
8-وقد تحدث الكآبة بسبب حرب خارجية من عدو الخير . دون ما سبب ظاهر ..
فالشيطان قد يغرس في النفس أسباباً للضيق . ولو يخترعها اختراعاً . او يكبر ويضخم في أسباب تافهة لا تدعو إلي الكآبة : أو يحاول ان يلهو بالانسان . فكلما يسعد بوضع . يغريه بأوضاع أخري كأنها أفضل مما هو فيه ! فإن وصل اليها . يغريه بغيرها أو بوضعه الأول . وهكذا يوجده في جو من التردد وعدم الثبات يكون سبباً في كآبته .
مثال ذلك ما يحدث في فترة يكون فيها الحاصل علي الثانوية العامة متحيراً في أية كلية يلتحق . أو المقبل علي الزواج . أية فتاة يختارها لتكون شريكة حياته ؟ ويحتار وتوصله الحيرة للكآبة !
وهذا يقودنا إلي سبب آخر للكآبة هو الشك ..
9-الشك - اذا استمر - يحطم النفس . ويجعلها في حالة كآبة وقلق :
سواء كان شكاً في اخلاص صديق . أو في أمانة زوجة أو عفتها . أو كان شكاً في حفظ الله ومعونته . أو شكاً في الإيمان .. أو قد يكون الشك في الطريق الذي يسلكه الانسان . هل هو حسب مشيئة الله أم لا ؟ أو قد يكون شكاً في تدابير تدبر ضده وهو لا يدري !
أفكار الشك تخرج من العقل . لكي توجد عذاباً في النفس . وتقود - ليست فقط إلي الكآبة - بل أيضاً إلي تصرفات تتناسب في الخطأ مع نوع الشكوك وحدتها .
مثل زوج يشك في عفة زوجته . فيغلق عليها الأبواب والنوافذ . ويتجسس عليها . ويسمح لنفسه ان يفتش خطاباتها وأدراجها . ويحقق معها في كل مايشك فيه . ويجعل حياتها عذاباً . وقد تكون بريئة كل البراءة . ولكنه يحاسبها علي كل ابتسامة وكل كلمة . وعلي كل لقاء وكل حركة . حياته تصبح في جحيم . وحياتها تصبح في جحيم . وتكون للكآبة نتائج اخري خطيرة .
ننتقل إلي النوع الرابع من الكآبة . وهو الكآبة المرضية :
vالكآبة المرضية : -
كما ان الشك المسبب للكآبة . إذا تطور يتحول إلي مرض . كذلك الكآبة أحياناً تتطور وتتحول إلي مرض . فكيف ؟
تضغط أفكارها علي الانسان حتي تحطم كل معنوياته . وتزيل منه كل بشاشة .
فكر الكآبة يلصق بالمريض ولا يفارقه .. يكون معه في جلوسه وفي مشيه . في نومه وفي صحوه . بأفكار سوداء كلها حزن وقلق وخوف .. وصور كئيبة أمامه بلا حل ولا رجاء . كآبة تضيع حياته وروحياته ونفسه وعقله . باقتناع داخلي أنه قد ضاع وانتهي ..
كما يخطئ ويقطع رجاءه في الخلاص وامكانية التوبة . ويقطع رجاءه في مراحم الله . وهذه هي طريقة الشيطان التي يوقع بها الانسان في اليأس والكآبة القاتلة .
وقد يكون من أسباب الكآبة المرضية : عقدة الذنب ..
ýكأن يموت لشخص أب أو ابن . فيظن انه السبب في موته . ويظل هذا الفكر يتعبه ويجلب له حزناً لا ينقطع . ويظل يقول : ربما قصرت في حقه . ولولا تقصيري ما مات ! ويظل الشيطان يذكرّه بمناسبات للتقصير .. ويقول في كآبته المرضية : ربما لو أحضرت له طبيباً أكثر شهرة . ما مات . ربما لو سافر إلي الخارج .. وهكذا تتبعه أفكار كثيرة .
ýوربما سبب كآبته مرض له يظن انه بلا شفاء ! أو يتوقع له نتائج خطيرة يصورها له الوهم والخوف .
vوالآن نذكر بعض أعراض هذه الكآبة وطرق علاجها : -
المريض بالكآبة قد يكون ساهماً باستمرار . كئيب الوجه والملامح . كثير الشكوي . تطحنه الأفكار السوداء بلا رجاء . وربما توصله إلي البكاء . يظن انه ضاع وانتهي . أو ما ينتظره هو أسوأ مما هو عليه .
وقد تحاول ان تصحح له أفكاره . فلا يقبل . وقد ينظر إليك في يأس أو شك ويبكي . أو قد يقول لك سمعت مثل هذا كثيراً ولا فائدة ! أو قد يرفض الحديث جملة بحجة عدم جدواه ..
ومشكلة هذا الشخص إما أنه لايجد حلاً فتزداد كآبته . أو يجد الشخص الذي يستريح اليه . فيظل يتردد عليه كثيراً . وفي كل مرة يقضي ساعات في الكلام والحوار . مصراً علي ما هو عليه . حتي يهرب منه الشخص المريح . فيتعبه هذا الهروب . ويري انه يفقد القلب الذي أراحه . وبهذا الفقد تزداد كآبته ..
ومن جهة العلاج . هناك نوعان من المصابين بالكآبة :
نوع يرفض العزاء ويرفض التفاهم . ونوع يتشبث بالفكر : كلما يخرجونه منه . يعود اليه . وكلما يستريح من كآبته يعود اليها مرة أخري .
وربما تخطر عليه فكرة الانتحار . لكي يتخلص من كآبته ومن يأسه ! وعموماً يكون للكآبة تأثيرها السيئ علي صحته : من جهة إنهاك الأفكار له ولأعصابه . ومن جهة التعب النفسي وثأثيره علي الجسد . وكذلك من جهة فكرة واحدة مسيطرة عليه لا يعرف كيف يخرج من حصارها له .
انه مرض يتعبه . ويتعب كل الذين حوله . ويتعب طبيبه ومرشده .
فما هو العلاج اذن ؟